لن يتأخر الانفجار في لبنان على طريق الانهيار الكبير، إذا استمرت الأمور على حالها. الإنقسام السياسي والطائفي تعززه حالة العقم عن إيجاد حل حكومي واستثمار فائض القوة في الداخل لإبقاء لبنان في دائرة التجاذب والفوضى والرهانات على تغييرات إقليمية ودولية تعيد هيكلة التركيبة اللبنانية والنظام وفرض أمر واقع للممسكين بالسلطة اليوم يديرون الحكم على هواهم برهانات انتحارية. الوقائع تشير إلى أن لا حل قريباً للأزمة والاختناق اللبنانيين، حتى لو بادر الرئيس الفرنسي إلى المساعدة في تسيير الخدمات العامة، فهي تذوب في باطن الدولة المفككة وتلاعب فرقائها السياسيين والطائفيين بمقوماتها… يحددون مصيرها انطلاقاً من حسابات ضيقة ومصالح مرتبطة بالخارج، في غياب مناعة وطنية تشكل قاعدة للإنقاذ.
تشير اليوميات اللبنانية الراهنة، إلى أن البلد بات على شفير الهاوية. هناك طرف هو “حزب الله” يُمسك بخيوط اللعبة ويقدم قوته الفائضة كرافعة للإنقاذ على طريقته في الهيمنة، فيما حليفه رئيس الجمهورية ميشال عون المتربع على القصر يمارس الحكم بالأمر الواقع ويقتنص صلاحيات في غياب الحكومة ورئيسها، ومرتاح على وضعه على الرغم من أن اللبنانيين يعانون الأمرين في الجوع والفقر وعدم قدرتهم على تأمين المتطلبات والحاجات الضرورية، فيصير كل شيء مباحاً على الأرض مع الفوضى التي تتدحرج في المناطق اللبنانية المختلفة وتصير كل طائفة تستثمر في بيئاتها وتغلق مناطقها استعداداً للانفجار الذي يطيح بالدولة والكيان.
أمام هذا الواقع، قرر “حزب الله” أن لا استقالات نيابية ولا انتخابات مبكرة في لبنان. بالنسبة إليه الأفضل تشكيل حكومة لتهدئة الوضع الداخلي إلى حين جلاء صورة المفاوضات الجارية في المنطقة خصوصاً حول الملف النووي، إذ إن لبنان سيكون جزءاً من ترتيب أوضاع الإقليم كما سوريا، إذا قيّض للمفاوضين التوصل الى اتفاق. لذا لا يسعى الحزب علناً لفرض أجنداته وشروطه السياسية، طالما أنه نجح في تحييد قوته وبنيته عن مسؤولية التعطيل الحكومي، لكنه يقدمهما كطرف مقرر متى شاء وهو الوحيد القادر على الإنقاذ وفي استطاعته تأمين المتطلبات الأساسية للصمود الاقتصادي حتى لو لم توافق الدولة عليها.
على وقع الفوضى اللبنانية، والعجز عن إيجاد حل ولو مرحلياً للأزمات، جاء الكلام الاخير للأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله، أكثر وضوحاً لما يريده الحزب في المرحلة الحالية، فهو قدم أكثر المطالعات جدية حول قوة الحزب المقرر في قضايا كثيرة في البلد، حتى في مسألة تأمين البنزين الإيراني والطلب من الدولة تبني استيراده كحل للمشكلة وبالليرة اللبنانية. لا يتوقف الأمر عند مادة البنزين، بل للكلام الذي توسع في قضايا مختلفة، أبعاد تتصل بالوضع اللبناني عموماً ومستقبله بعد الانهيار. الصورة التي يرسمها نصرالله في سياق مشروعه، أنه يقدم نفسه وحزبه منقذاً للبنانيين في لحظة حرجة ويعفي نفسه من مسؤولية الانهيار وكذلك التعطيل الحكومي، وهو يعرف أن الإنقاذ مهمة صعبة وشاقة ولا يمكن أن تُنجز بربط لبنان بمشاريع أقليمية ورهانات انتحارية.
يفصل نصرالله بنيته العسكرية والأمنية عن الأزمة، ويقدمها أنها وسيلة الإنقاذ الوحيدة ويدعو الدولة للتسليم بمشروعه. وللعلم أن البيئة الطائفية التي ينطلق منها الأمين العام لـ”حزب الله” تعاني أزمات كبرى كسائر اللبنانيين، لكن بنيته الأمنية وقوته يوفر لهما بالدعم الإيراني كل المتطلبات لضمان استمرارهما كقوة تدخل إقليمية إيرانية بالدرجة الأولى، وهو لا يخفي هذا الأمر، بالرغم مما ترتب على لبنان من ضغوط وعقوبات دولية مستمرة. وقبل أن يقدم نصرالله نفسه منقذاً بالتباساته، كان عاير اللبنانيين بأنه أنجز تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي، لكن في ذلك الوقت ساهم كل اللبنانيين في دعم المقاومة ضد الاحتلال وهي مهمة لبنانية وطنية، أما الأرض المحررة تحولت في ما بعد إلى منزل لـ”حزب الله” استثمرها في مشاريع السيطرة ولم يُستثمر التحرير في عملية إعادة بناء الدولة وتعزيز المناعة الوطنية والتوافق بين المكونات اللبنانية، وهكذا شهدنا حرب 2006 التي قدم من خلالها “الحزب” نفسه أنه حامي لبنان على الرغم مما سببه العدوان الإسرائيلي من تدمير، سارعت دول عربية وخليجية للمساهمة في إعادة الإعمار.
في المرحلة الثانية أيضاً لم يتوانَ الحزب لتحويل مقاومته ضد الاحتلال الإسرائيلي الى قوة إقليمية والتدخل في سوريا الى جانب النظام، وقدم بنيته وقوته على أنهما لحماية لبنان من التكفيريين و”داعش” و”النصرة”، فيما ارتدت الأزمات في سوريا بما فيها قضية النازحين الى أعباء مضاعفة على لبنان وساهمت السيطرة على الحدود السورية – اللبنانية والتحكم بالمعابر الى ما حل بلبنان من انهيار وفقدان للمواد الأساسية المدعومة.
كلام نصرالله “المنقذ” لا يخرج عن سياق مشروعه المرتبط بإيران. لذا يحاول في الداخل اللبناني أن يقدم حزبه خارج تجاذبات التعطيل، فلا مواجهة مع الطائفة السنّية ولا يريد أيضاً أن يفك تحالفه المسيحي مع ميشال عون ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، لكنه يحدد لهما الخطوط الممنوع تجاوزها، وعلى هذا تراجع الجميع عن التهديد بالاستقالة من مجلس النواب. لا أحد اليوم يستطيع مواجهة “الحزب” من خصومه ولم يعد بحاجة لدعم حلفائه الذين خسروا الكثير من رصيدهم خصوصاً رئيس الجمهورية، فيما هو مرتاح إلى تهدئة الجبهات خصوصاً بالمواجهة مع إسرائيل التي تستمر في هجماتها ضد مواقع إيرانية في سوريا، فيستطيع نصرالله أن يقول ما يريد، طالما أن المفاوضات الاميركية – الإيرانية غير المباشرة تسير على السكة، وأيضاً المفاوضات الإقليمية بين دول المنطقة، ويترك داخلياً لميشال عون ممارسة مهماته بتعزيز صلاحيات الأمر الواقع وسد الفراغ الحكومي. لكن كلامه ليس انقاذياً، بل مجرد كلمات تنتظر نتائج المسارات الإقليمية والدولية، ولبنان جزء من ترتيب ملفاتها… والبلد يسير نحو الانهيار والانفجار الكبيرين.
المصدر: النهار العربي