تطورات أمنية وسياسية متسارعة في العراق، تنذر باحتمال تفجر الأوضاع في اية لحظة، وجر البلد، مجددا، إلى الانفلات والفوضى الأمنية التي سادت بعد الفتنة الطائفية بين الأعوام 2005 – 2008.
فقد شهدت بغداد، فصلا جديدا من المواجهة بين القوات الحكومية وفصائل الحشد الشعبي، التي نشرت عناصرها المسلحة قرب مداخل المنطقة الخضراء، مقر الحكومة والسفارات، وسط بغداد، عقب اعتقال الحكومة، قاسم مصلح، قائد إحدى فصائل الحشد الشعبي، وفق مذكرة اعتقال رسمية، بتهمة قتل الناشطين وقصف قواعد يوجد فيها مستشارون أمريكان، وفي المقابل انتشرت قوات حكومية إضافية مدعومة بالدبابات والمدرعات، في نفس المنطقة لحماية المؤسسات الحكومية والأجنبية فيها.
ورغم أن مصادر الحشد الشعبي وبعض الأحزاب الشيعية، ذكرت لاحقا إن قاسم مصلح (المقرب من فيلق القدس الإيراني) والمسؤول عن قاطع الأنبار، قد تم تسليمه للحشد بعد ساعات من اعتقاله والتحقيق معه، إلا ان رد فعل الفصائل الولائية وتهديدها وتحديها لحكومة الكاظمي، وهي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، أصبحت مثار قلق جدي لدى العراقيين والمجتمع الدولي.
وازاء تحدي الفصائل، قال رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، إن التحركات «تعد انتهاكاً خطيراً، ليس فقط للنظام والقانون، بل وللدستور العراقي» مبينا ان إلقاء القبض على مصلح، تم وفق مذكرة قانونية بناء على شكاوى بحقه، ومؤكدا «أن هناك من يحاول خلق أزمات أمنية وسياسية لغرض التنافس الانتخابي أو عرقلة الانتخابات» مكتفيا بالتصريحات التي تعكس ضعف الدولة أمام سطوة الفصائل.
وأشارت المصادر إلى أن عملية اعتقال مصلح تأتي لاتهامه بالضلوع في قضية مقتل الناشط المدني إيهاب الوزني في مدينة كربلاء مؤخرا، حيث كشفت عائلة الوزني، إن ابنها تلقى تهديدات متكررة من مصلح.
إلا ان وكالة «رويترز» أفادت أن مصلح اعتقل لضلوعه، أيضا في عدة هجمات، منها هجمات على قواعد فيها خبراء أمريكان وقوات دولية أخرى.
وجددت هذه التطورات، تحذيرات من محاولة بعض الفصائل، خلق فوضى أمنية في البلد، بين آونة وأخرى ضمن سياستها في تحدي الحكومة ومحاولة جرها للصدام المسلح وإعادة إشعال الحرب الأهلية في البلد المنكوب، مع أهمية ملاحظة تنامي الانقسام بين القوى الشيعية ازاء الفصائل المنفلتة، حيث عبر قادة بارزون منهم مقتدى الصدر وعمار الحكيم وحيدر العبادي وآخرون، عن تأييد إجراءات حكومة الكاظمي وضرورة ضبط الفصائل المنفلتة لتجنب كارثة انهيار الدولة الشامل.
ومن المفارقات ان فصائل الحشد تدعي دائما انها تخضع لأوامر حكومة الكاظمي، التي تتلقى منها الرواتب والسلاح، إلا ان العديد منها، يتصرف بمعزل عن الحكومة مستقويا بدعم سياسي محلي وإقليمي، بل انها وجهت مرارا، للكاظمي الاهانات والاتهامات بالعمالة للأمريكان، وهي تواصل سياسة تحدي الدولة واستفزازها، لتعزيز القناعة بضعفها أمام الرأي العام الداخلي والخارجي.
ولم يكن المجتمع الدولي بعيدا عن هذه التطورات، إذ عدت مبعوثة الأمين العام للأمم المتحدة إلى العراق، جينين بلاسخارت، انتشار فصائل الحشد الشعبي ودخولهم للمنطقة الخضراء، «أن استعراض القوة يضعف الدولة العراقية، ويزيد من تآكل ثقة الجمهور بها» مشددة في تغريدة لها على تويتر، ان «وجود جماعات مسلحة خارج الدولة، سيجر العراق نحو الهاوية». فيما أعلنت السفارات الأمريكية والبريطانية والكندية في بغداد، وقوفهما إلى جانب الحكومة العراقية وتحقيقاتها في أعمال «الجماعات المسلحة».
وتأتي هذه التطورات الأمنية، بعد يوم من الانتكاسة الأمنية في ساحة التحرير وسط بغداد وخلال تظاهرة 25 ايار التي نظمتها تنسيقيات المحافظات، للمطالبة بكشف قتلة الناشطين والمتظاهرين، وتهيئة بيئة مناسبة للانتخابات المقبلة، حيث قامت القوات الأمنية الحكومية بفض التظاهرة باستخدام القوة مما أدى إلى قتل وجرح العشرات منهم، وذلك رغم توجيهات الكاظمي (المشددة) بعدم استخدام القوة ضد المتظاهرين، مما عزز انطباع العراقيين والمراقبين، بأن عناصر الفصائل المسلحة المتغلغلة في القوات الحكومية، لا تنصاع لأوامر رئيس الحكومة وانما تنفذ أوامر قادة الفصائل، التي أرادت، هي وأحزاب السلطة، إرسال رسالة واضحة للشعب العراقي، بان إرادة الدولة العميقة فوق قدرات الحكومة وفوق القانون، وانها لا تعبأ لرغبات الشعب، مع استمرار استخدامها لغة التهديد والتخوين لجماعات الحراك، التي وعدت بدورها، بمواصلة فعالياتها الاحتجاجية، مما ينذر بمرحلة جديدة من تصعيد الصراع بين الحراك والفصائل.
ويرى المراقبون بان قمع تظاهرة 25 ايار الحالي، ونزول المسلحين إلى المنطقة الخضراء، هو حراك مبكر من بعض الفصائل هدفه أيضا، إجهاض عمل لجنة التحقيق التي انشأها الكاظمي حول المتسببين بعمليات قتل المتظاهرين والناشطين، لابلاغ الحكومة بان الفصائل لن تعترف بنتائج التحقيق، وهو ما يؤكد تورطها في تلك العمليات.
كما يتزامن التصعيد الأمني ، مع مشروع قانون استرداد أموال الفساد من الخارج، الذي قدمه رئيس الجمهورية برهم صالح، إلى البرلمان، «من أجل إستعادة أكثر من 150 مليار دولار من صفقات الفساد تم تهريبها إلى الخارج» من قبل الأحزاب المتنفذة والفصائل التابعة لها.
وإذا ربطنا هذه التطورات مع مؤشرات أخرى، منها طرح قوى سياسية مقربة من الفصائل، فكرة إنشاء حكومة طوارئ وإسقاط حكومة الكاظمي من أجل تأجيل الانتخابات، إضافة إلى الضغط على الناشطين والأحزاب التشرينية، للانسحاب من الانتخابات ومقاطعة العملية السياسية، مع تهديد الفصائل بتصعيد الموقف مع الولايات المتحدة، وتوعدها بشن هجمات متصاعدة على قواتها في العراق، ليكون كل ذلك ضمن سيناريو افتعال الأزمات وخلط الأوراق، لإبقاء العراق ضعيفا أمام الدولة العميقة وأدواتها، دون عزل ذلك عن تداعيات التوتر والصراع الأمريكي الإيراني الحالي.
المصدر: »القدس العربي»