مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في إيران، المقرر إجراؤها في 18 الشهر المقبل (يونيو/ حزيران)، بدأت تتّضح معالم السباق الرئاسي الذي يتوقّع له أن يكون ساخناً، وأن تتخلله أحداثٌ كثيرةٌ لافتة، بحكم الرهانات المسبقة التي تحصر التنافس على مقعد الرئاسة بين ثلاثة تيارات رئيسية: المحافظون المتشدّدون الذين يسيطرون على البرلمان وعلى السلطة القضائية، ولديهم مرشّحون كثيرون تابعون للحرس الثوري الإيراني. الإصلاحيون الموصوفون بأنهم أكثر اعتدالاً من المحافظين. المعتدلون الذين يحاولون الموازنة بين التيارين السابقين.
وعلى الرغم من عدم اتضاح أسماء المرشّحين لهذه الانتخابات بشكل قطعي، قبل اجتياز سدّ مجلس صيانة الدستور الذي تعود إليه صلاحية التصديق على أسماء المترشّحين، واستبعاد من لا يراه مناسباً، يبقى عامل الصراع الداخلي بين الأجنحة الإيرانية، وأبعاد هذا الصراع ومسبّباته ومدى تأثيره بحياة الإيرانيين ومستقبلهم، وكذلك ببقاء النظام الإيراني (الثيوقراطي) وديمومته وأهدافه ومشروعاته، أحد أهم العوامل الحاكمة في إجراء الانتخابات الرئاسية وتفاعلاتها ونتائجها.
تدل الخريطة السياسية الحالية للقوى والتيارات الفاعلة في الحياة السياسية الإيرانية، التي عكستها بوضوح نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في فبراير/ شباط 2020، وشهدت سيطرة واضحة للمحافظين على البرلمان، على طبيعة الصراع الذي بدأ يتّسع حول هوية النظام السياسي في إيران، هذه الهوية التي كانت راسخة منذ تأسيس إيران على يد العائلية الصفوية حتى قيام النظام السياسي الإسلامي على يد الخميني، حيث لم تعانِ إيران طوال هذه الفترة من أزمة الهوية كما تعاني منها الآن، على خلفية سياسات المرشد الحالي، علي خامنئي، التي أدّت إلى بروز الهوية القومية كردة فعل على عسكرة النظام وعسكرة الهوية العقائدية، بعد تنامي دور الحرس الثوري واتساعه، ليشمل المجالين، السياسي والاقتصادي، إلى درجة أنه بات يتمتع بهيكلية موازية لدولة ضمن الدولة. وقد يكون تسريب التسجيل الصوتي لوزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، الشهر الماضي (إبريل/ نيسان)، الذي تحدّث فيه عن أولوية الميدان على الدبلوماسية في سياسة إيران الخارجية أو ما تسمّى “عسكرة الحيّز السياسي” من الحرس الثوري، وما أثاره هذا التسجيل من جدالٍ واسع وانتقاداتٍ حادّة للوزير، خير دليل على أزمة الهوية التي بدأت تظهر بشكلٍ واضحٍ، وبدأ الحديث عنها يأخذ مكانه في النقاشات والجلسات والحوارات.
بناءً على ما سبق، يرى محللون وكتّاب أن الانتخابات الرئاسية في إيران لن تكون مجرد انتخابات لاختيار رئيس للجمهورية يأتي بالمرتبة الثانية بعد المرشد، بل هي للحفاظ على النظام السياسي وهويته التي بدأت تخضع، في الفترات الأخيرة، لمساومات بين مؤسساتٍ عديدة متنافسة، خصوصاً المؤسسة العسكرية التي باتت تختزل النظام في هيبتها. ومن هنا جاءت خطابات خامنئي، بعد طرحه الاستراتيجية المستقبلية تحت مسمى “الخطوة الثانية للثورة”، لتحدد مسبقاً ملامح الحكومة المقبلة القائمة على بناء صف جديد من القيادة، يهيئ الأرضية لقائد الثورة القادم الذي سيخلف خامنئي المصاب بسرطان البروستاتا، وطرح فكرة تشكيل حكومة شبابية – ثورية – عقائدية، تتولّى مقاليد الحكم في إيران، برئاسة شاب ثوري يلتزم المفاهيم الأساسية التي جاءت بها الثورة الإيرانية، ويعزّز، في الوقت نفسه، الأسس العقائدية والسياسية للنظام الإيراني، للحفاظ على ديمومتها واستمرار النظام الثيوقراطي الحاكم.
طبعاً، الملامح العامة التي حدّدها خامنئي للحكومة الجديدة، إلى جانب القيود التي فرضها مجلس صيانة الدستور على المرشّحين لخوض الانتخابات الرئاسية، وتوقعات إقصائه مرشحين محتملين بارزين للتيار الإصلاحي، إلى جانب فسحه المجال أمام المحافظين وكبار العسكريين في الحرس الثوري للترشّح، كلها أمور تدل بوضوح على محاولة الحفاظ على هوية النظام الإيراني واستمراره من خلال انتخاب رئيسٍ محسوبٍ على المحافظين. وقد يكون هذا الرئيس من صفوف العسكر أو الحرس الثوري. وما يرجّح هذا الأمر، إلى جانب ما سبق، طريقة تفكير المؤسستين، الدينية والعسكرية، في إيران، في المرحلة الراهنة والقائمة على محاولة توحيد التوجه السياسي للسلطات في إيران، بهدف إيجاد حالة انسجام بينها لمواكبة تحدّيات المرحلة المقبلة، حفاظاً على ما تسمّى مفاهيم الثورة وديمومة النظام السياسي.
لذا، يمكن القول إنّ التوجّهات الحالية في إيران قائمة على ضرورة توحيد السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، بيد المحافظين، وعلى اعتبار أن السلطتين، القضائية والتشريعية، يسيطر عليهما المحافظون، لم يبقَ إلا السلطة التنفيذية. وبالتالي، من المتوقع أن تكون الانتخابات الرئاسية محسومة لمصلحة تيار المحافظين، وخصوصاً أنّه ليس لدى الإصلاحيين مرشّح قوي، يستطيع أن يغيّر الكتلة التصويتية في الشارع الإيراني، بعد عزوف قاعدتهم الشعبية عن المشاركة، على غرار ما حدث في الانتخابات البرلمانية في 2020. كذلك، إن تيار الاعتدال الذي يتزعمه الرئيس حسن روحاني، قد فشل في تحقيق برامجه التي أعلنها، ولا يوجد في صفوفه من يستطيع أن يكون مرشّحاً ينافس بقوة على المنصب، لتكون بذلك الساحة مفتوحةً أمام مرشّحي التيار المحافظ الذي حظي عديدون من مرشّحيه المتشددين، أمثال حسين دهقان، المستشار العسكري للمرشد الأعلى ووزير الدفاع سابقاً، وسعيد محمد، القائد السابق للمجمع الاقتصادي التابع للحرس الثوري (خاتم الأنبياء)، وإبراهيم رئيسي، رجل الدين المتشدد ورئيس السلطة القضائية، باهتمام المرشد الأعلى للثورة والحرس الثوري الإيراني. ويأتي هذا الاهتمام، بالدرجة الأولى، ضمن مقتضيات المرحلة السياسية الراهنة التي يمرّ بها النظام السياسي في إيران، والتي تقتضي، حسب رؤية هؤلاء ومصالحهم، ضرورة توحيد توجّه السلطات الحاكمة في إيران إلى إيجاد انسجام قوي داخل صفوفها، يخفف حالة التضادّ بينها، ويساعدها في الحفاظ على النظام وهويته، وأداء دور متناغم في عملية التفاوض حول الملف النووي الإيراني، وملفّات أمنية وعسكرية أخرى تدخل ضمن المشروع السياسي الإيراني في المنطقة.
المصدر: العربي الجديد