حماس بين السياسة والكفاح.. هل تُهدِّد الانتخابات الفلسطينية سلاح المقاومة؟

فريق التحرير

في مساء 25 مارس/آذار 2006، جلس الرئيس الفلسطيني محمود عباس في مكتبه بمقر الرئاسة في رام الله للقاء الصحافي المخضرم في صحيفة “هآرِتس” الإسرائيلية “عكيفا إلدار”. جُهِّزَت المقاعد التراثية وأدوات الضيف، والتف الموظفون في قاعة الضيافة ببذلاتهم الأنيقة على البُسط المزركشة يتفقَّدون أدق التفاصيل. أراد عباس ابن الواحدة والسبعين آنذاك أن يرسل جملة من الرسائل إلى المسؤولين الإسرائيليين ضمن إجاباته عن أسئلة “إلدار”، على رأسها “تأنيبهم” على عدم السماح بتسليح قواته جيدا. لذا، ما إن ألقى الصحافي الإسرائيلي سؤاله على عباس بخصوص عدم وفائه بوعده توحيد أجهزة الأمن ونزع سلاح المسلحين، حتى جاءت إجابة عباس بنبرة حادة: “عندما طلبت من إسرائيل المصادقة على إدخال السلاح قالوا اشترِ من المافيا ومن المهرِّبين.. لم تُلبِّ إسرائيل أو الولايات المتحدة أي طلب من طلباتي ودخلت في نزاع مع التنظيم بيدين فارغتين”.
كان عباس يقصد بالتحديد مواجهة حركة حماس التي طردت بسلاحها عناصر السلطة من غزة إبان ما يُسمى بـ “الحسم العسكري”، أو “الانقلاب الحمساوي”، الذي تمخَّض عنه وقوع قطاع غزة تحت سيطرة الحركة بعد فوزها في الانتخابات التشريعية التي أُجريت مطلع عام 2006. الآن، بعد مُضي 16 عاما على الانقسام الفلسطيني، لا يزال الرئيس محمود عباس عند موقفه من سلاح حماس، رغم جملة التغيرات الإقليمية والدولية التي دفعته مؤخرا إلى تسريع عملية المصالحة مع الحركة وإقرار ثلاث جولات متتالية من الانتخابات الوطنية (قبل أن يُصدِر مرسوما بتأجيل الانتخابات مبكرا). ونتيجة لذلك، فإن هناك مخاوف تسكن الذاكرة الفلسطينية منذ عام 2007 عند طرح مسألة سلاح حماس في قطاع غزة ومصيره بعد الانتخابات المقبلة حال إجرائها. فتلك القضية الحيوية القائمة على أن السلاح هو السبيل الوحيد لتحقيق مبدأ “ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة”، قد تُفضي إلى تكرار مشاهد الانقسام الداخلي الذي وقع عامَيْ 2006-2007.
في قاعة فندقية كبيرة مُزيَّنة بأعلام فلسطينية ومصرية، جلس نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري مقابل أمين سر حركة فتح اللواء جبريل الرجُّوب، ومن حولهم قادة 13 فصيلا آخر ومسؤولون من لجنة الانتخابات المركزية. كانت أجواء الحوار الوطني الفلسطيني إيجابية بشكل لم يسبق له مثيل على مدار 15 عاما. وتوقَّفت المصالحة حينئذ على نجاح صالح وجبريل، الخصمين اللدودَين، والصديقين لسنوات في سجون الاحتلال الإسرائيلي، في الوصول إلى توافق يُبرهن على نضج جهود المصالحة الفلسطينية بعد عقد ونصف من الانقسام. خلال الاجتماع الذي أُقيم في 13 سبتمبر/أيلول الماضي، وُضِعت الخطوط الأولى للتحرُّك الفعلي نحو إجراء الانتخابات العامة التي لم تجرِ منذ عام 2006، ووقَّعت الفصائل الفلسطينية في القاهرة على “وثيقة الشرف”، التي أكَّدت التزام الفصائل بالاحتكام لقانون الانتخابات المعدَّل رقم 1 لسنة 2007، واحترام دور لجنة الانتخابات المركزية والمراقبين العرب والدوليين، وعدم الاحتكام للسلاح أو العنف في الانتخابات التشريعية التي كان من المفترض أن تجري يوم 22 مايو/أيار.
بوسعنا أن نتوقَّف قليلا عند البند العاشر في الوثيقة المُكوَّنة من 25 صفحة، والمُتعلِّق بـ “تجريم وحظر استخدام الأسلحة أثناء الأنشطة الانتخابية”. ويُعيد هذا البند الذاكرة إلى المشاهد المؤلمة التي وقعت عام 2007، حين استُخدِم السلاح الفلسطيني لفرض النتيجة التي أفرزتها انتخابات 2006، التي حصلت فيها حماس على 74 مقعدا في المجلس التشريعي مقابل 45 مقعدا لحركة فتح. فعلى ضوء الانتصار الانتخابي لحماس، بدأت السلطة الفلسطينية المُمسِكة بزمام الأمور في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ عام 1994 التضييق على قادة حماس المنتخبين، ووضعت بالتناوب مع الاحتلال النواب الفائزين ووزراء الحكومة المنتخبة في السجون. وقد وصلت الأمور إلى ذروتها مع قرار الرئيس الفلسطيني محمود عباس في يونيو/حزيران 2007 إقالة رئيس وزراء حماس إسماعيل هنية بعد سيطرة كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، على مراكز الأجهزة الأمنية في قطاع غزة، وتعيين سلام فياض، وزير المالية في حكومة الوحدة الوطنية التي ترأسها هنية بعد اتفاق مكة بين الطرفين في فبراير/شباط 2007، في المنصب بدلا منه.
في المحصلة، استسلمت حماس للانقلاب عليها في رام الله، لكنها رفعت سلاحها في غزة ليس فقط للحصول على حقها في الحكم، ولكن لحماية نفسها مما ظنَّته خطرا يُهدِّد وجودها، لكن نهجها ذاك بات سببا رئيسيا في فرض حصار إسرائيلي ودولي متواصل على غزة بُغية إجبار الحركة على إلقاء السلاح والعدول عن مسارها. فقد طالبت اللجنة الرباعية الدولية (الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) حماس بـ “نبذ الإرهاب، والاعتراف بحق إسرائيل بالوجود، والاعتراف بالاتفاقات المُوقَّعة بين إسرائيل والفلسطينيين، ونزع السلاح”، وذلك مقابل الاعتراف بها طرفا مقبولا في الساحة الفلسطينية.
على الصعيد الداخلي، ركَّزت جهود المصالحة منذ عام 2007 على ثلاث قضايا أساسية، وهي نزع سلاح حماس في غزة، وإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، وإجراء انتخابات جديدة. وأصرَّت السلطة الفلسطينية على وجود سلاح موحَّد تحت رعاية أجهزتها الأمنية وعدم السماح بنموذج السلاح الخاص على غرار حزب الله اللبناني، فيما لم تُبدِ حماس أي استعداد البتة للتخلي عن سلاحها. بيد أن الحركة خفَّفت من حِدَّة خطابها ونهجها تحت وطأة الحصار والضغط الدولي، مثلما فعلت عام 2017 حين أبدت استعدادها لوضع السلاح تحت مسؤولية كيان وطني مشترك يُحدِّد طبيعة المقاومة ويسمح باستخدام السلاح من عدمه، مقابل المصالحة مع فتح.
كان الإعلان عمَّا ستتضمَّنه حلقة برنامج “ما خفي أعظم”، التي بثَّتها قناة الجزيرة في قطر سبتمبر/أيلول الماضي، 2020، كفيلا بأن تتأهَّب أجهزة مخابرات عدة لمتابعة الحلقة مع حشد كبير من المشاهدين. ففي واحد من أقوى البرامج الإعلامية الاستقصائية، اختارت حركة حماس أن تُخرِج ما تريد من معلومات حول إمدادات السلاح الخاصة بها. كان توقيت الحلقة مهما أيضا، إذ تزامن مع الصدمة الشعبية تجاه اتفاقيات التطبيع الخليجي مع إسرائيل التي توالت بعد الإعلان عن “صفقة القرن” التي تستهدف تحويل غزة إلى منطقة منزوعة السلاح.
حمل البرنامج رسائل عدة عن الوضع العسكري لحماس، فتعمَّدت كتائب القسام في كشفها الأول عن عتادها القتالي التأكيد أن الجهود التي بُذلت لمنعها من التسلُّح باءت بالفشل، فهي من جهة تُصنِّع سلاحا نوعيا في غزة، ومن جهة أخرى تجلب الأسلحة من دول مثل سوريا وإيران. وقد ظهر رجال حماس في حلقة البرنامج كخلية نحل تعمل بانتظام لزيادة القدرة التصنيعية في مجالات القتال المختلفة، حيث كشفت الحركة أنواعا مختلفة من الصواريخ مثل “فجر-5” الإيرانية بمدى 100 كيلومتر، وعدد من الطائرات المُسيَّرة والصواريخ المضادة للدبابات، كما كشفت الحركة عن خططها للحصول على صواريخ مضادة للسفن، وأنظمة رادار للصواريخ المُوجَّهة (1). تتنامى إذن القدرات العسكرية لحماس وطاقتها الإنتاجية من الصواريخ والطائرات المسيرة بدعم وتمويل إيراني، لتصبح كتائب القسام اليوم أشبه “بجيش شبه نظامي”، كما يُفيد تقرير إسرائيلي أكَّد أن كتائب القسام “تحوَّلت من فِرَق وكتائب غير منظمة إلى جيش شبه نظامي له تسلسل هرمي واضح، مما سيجعل المواجهة العسكرية المباشرة القادمة مختلفة عن المواجهة السابقة”.
في الفترة بين 14-19 مارس/آذار الماضي، استطلع “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية” -غير حكومي- آراء الفلسطينيين حول اختياراتهم في انتخابات مايو/أيار القادم، وأظهرت النتائج أن حركتَيْ حماس وفتح لن تحصلا على أغلبية برلمانية، إذ اختار المستطلعة آراؤهم أن يمنحوا قائمة فتح 43% من الأصوات في حين اختار 30% قائمة حماس. كانت المفاجأة فيما توقَّعه الاستطلاع، من أن حركة فتح تواجه تحديا غير مسبوق في قطاع غزة من قائمتين مستقلتين للقياديين المفصولين من الحركة، محمد دحلان وناصر القدوة. ورغم تنوُّع القوائم المتنافسة واختلاف السيناريوهات المُتوقَّعة لمسار الانتخابات المؤجَّلة الآن، فإن التعامل مع معضلة سلاح الفصائل الفلسطينية والعمل المسلح ضد إسرائيل من قطاع غزة سيكون ملفا حاسما قد يُقرِّر مآلات السياسة الفلسطينية بعد الانتخابات.
يقول المحلل السياسي الفلسطيني “ساري عرابي” في هذا الصدد إنه في حال فازت حماس، فمن المؤكد أن سلاحها سيتبوأ مركز التجاذبات السياسية بينها وبين فتح، وقد تتعرَّض الحركة للضغط مجددا بخصوص سلاحها حتى يُسمح لها بالاندماج في المنظومة السياسية الفلسطينية أو في أي حكومة ائتلافية تنشأ عن المجلس التشريعي القادم. ومن ثمَّ يلوح في الأفق مرة أخرى شبح الانقسام وتعطُّل المسار السياسي ثم الحصار بسبب سلاح المقاومة. أما في حال خسارة حماس وفوز فتح، فيقول عرابي إن الحركة ستعود لرفع شعارها الدائم حول توحيد سلاح السلطة الفلسطينية، “إلا إذا حسنت النيات ووُجِدَ استعداد للاتفاق الوطني حول قضية من هذا النوع ما بين الحركتين”.
يعتقد عرابي أنه من الصعب دمج سلاح المقاومة في صفوف القوات الفلسطينية لكون الأخيرة محكومة بسياق الاحتلال وقيوده في الضفة الغربية، وكذلك بالسلطة الفلسطينية ووظائفها المرتبطة بالاتفاقيات مع الاحتلال الإسرائيلي. ومن ثمَّ فإن دمج سلاح المقاومة تحت لواء السلطة سيؤثر لا محالة على حسابات المقاومة وممارساتها وتسلُّحها، بيد أنه سيؤثر أيضا من جهة أخرى، حال نجح الطرفان في الوصول إلى صيغة وطنية جيدة للتعاون، في العقيدة الأمنية لأجهزة السلطة الفلسطينية نفسها على نحو لن يرضى عنه الاحتلال أبدا، وتلك حالة معقدة يصعب التفاهم عليها بين حماس وفتح.
في نهاية المطاف، تُصِرُّ حركة حماس على اعتماد البنية التحتية العسكرية لها وسيلةً لتحقيق إستراتيجيتها وإثبات مطالبها بالاعتراف بها قائدا للكفاح المسلح، أما أقصى ما يمكن لقيادة حماس الموافقة عليه بعد الانتخابات حال إجرائها فهو تمكين السلطة الفلسطينية من العودة إلى غزة وقبول الإدارة المدنية للمنطقة. لكن هذه التسوية نفسها يمكن أن تتحوَّل إلى منزلق وعِر يقود الساحة الفلسطينية تدريجيا إلى نموذج مُشابه لنموذج حزب الله في لبنان. بدوره، لن يوافق عباس على استلام غزة مع استمرار وجود سلاح آخر فيها غير ذلك الخاضع لأوامر السلطة الفلسطينية، وهو موقف لم تُبدِّله الضغوطات الشتى التي تعرَّض لها.
بدءا من صفقة القرن وإرهاصات تصفية حل الدولتين البادية في الأُفق، مرورا باستمرار عجلة الاستيطان على قدم وساق، ووصولا إلى الانشقاقات داخل حركة فتح، تتعرَّض السلطة الفلسطينية وقائدها السبعيني لضغوط غير مسبوقة منذ تأسيسها، ما دفعها إلى قبول المصالحة مع حماس والإعلان عن إجراء انتخابات تشريعية جديدة لأول مرة منذ عام 2007، بيد أن تلك الانتخابات -المُعلَّقة الآن إلى أجل غير مُسمى- لم تُزحزح تشبُّث عبَّاس بنزع سلاح “التنظيمات” كما يُسمِّيها. (2) في الأخير، يدرك الفلسطينيون وجيرانهم جميعا أن القضية الفلسطينية تمر بمفترق طرق، وأن فتح باب الانتخابات، الذي يسعى الجميع نحوه الآن لتحقيق مكاسب قصيرة الأجل، قد يُعيد السياسة الفلسطينية إلى مجاريها المتيبسة منذ عقد ونيف، ولعله يأذن بظهور تحالفات ومعادلات جديدة تُعيد تعريف السلطة الفلسطينية والمقاومة على السواء.
_____________________________________________________
المصادر:
ما خفي أعظم – الصفقة والسلاح
“شبكة قدس” تحاور باحثاً حول مخرجات حوار القاهرة

المصدر: الجزيرة. نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى