أيقونات سوريّة تكفي العالم

حازم نهار

في رأيي، إن نصّ (وصيّة ـ لا وصيّة) الذي كتبه سعد الله ونُّوس، ووجّهه إلى ابنته ديما (وإلى جيلها وإلى الأجيال التي تليها) من أصدق الوصايا وأكثرها تواضعًا. يقول ونوس فيه: (أولًا: ليس في نيتي أن أقدِّم لكم أي وصية. لأني لا أملك هذه الوصية. ثانيًا: لأن أية وصية لا تبلورها التجربة، والمعاناة، هي نوع من اللغو والإنشاء. وكثيرًا ما حلمنا أننا سنترك لكم زمنًا جميلًا ووطنًا مزدهرًا.. لكن علينا أن نعترف، ودون حياء أننا هزمنا وأننا لم نترك إلا خرابًا، وبلادًا متداعية. ويجب أن يكون هذا واضحًا… وهذا ما أعتقده على الأقل. إن هزيمتنا لا تعني أن الأفكار التي كنّا نتبناها، وندافع عنها كانت خاطئة.. لا. لم تكن أفكار الحرية والديمقراطية، والعقلانية والوحدة العربية، والعدالة الاجتماعية أفكارًا خاطئة.. ولكن جيلنا لم يعرف كيف ينتصر بأفكاره، ولأفكاره… لا المغفرة مهمة… ولا الإدانة مهمة أيضًا… لكن ما يعمق الأسى في الروح هو أننا نترك لكم العمل غير منقوص… وندفعكم قبل الأوان كي تبدؤوا العمل في تاريخٍ، وأرضٍ لا يقدمانِ إلا الإحباط والمصاعب… أود أن تكون هذه النبرة الكئيبة مجرد تهويمة مرض، وأود أن تكون الطاقات المخزونة في أعماقكم أقوى من هزيمتنا ورؤانا… ومن يدري! فقد تجدون الجملة السحرية، التي يغدو بها الزمن جميلًا، والبلاد مزدهرة).
تذكرت وصية ونوس في سياق سيطرة حالة من غياب التواضع على وعينا العام إن جاز التعبير، وضمور فضيلة الاعتراف بالخطأ في حياتنا خلال العقد الماضي. جبل الأخطاء الماثل أمامنا اليوم لا آباء ولا أمهات له، ويبدو أنه قد هبط علينا من كوكب آخر، فنحن في خير عميم، ولم نرتكب أي حماقات، لا في الفكر ولا في السياسة ولا في قراءة الواقع، ولا في أي شيء، ولدينا من الأيقونات الفكرية والسياسية والثورية والفنية والرياضية ما يفيض على حاجة العالم. كل ما هنالك فحسب أننا ضحية النظام السوري، والسياسات الإقليمية والدولية، ولا يوجد ما يستدعي التفكير وإعادة النظر في أنفسنا وعقولنا وتجربتنا وأدائنا، ولذلك سنبقى ننتظر أن يمنّ علينا العالم برحمته أو أن يهبط علينا شيء من المريخ يحقِّق أمنياتنا ويزيح الكربة عن أرواحنا.
يترافق غياب التواضع وغياب اعترافنا بمسؤوليتنا عن نسبة ما من كارثتنا، بحالة من فقدان المعنى، حتى الكلمات ذاتها أصبحت خاوية، خصوصًا في ظل فوضى التفكير التي أدت إلى الابتذال في استخدامها. ومن الطبيعي أن يؤدي هذا إلى ضياع واختلاط المعاني والدلالات؛ أصبحت كلمات مثل: ثوري، معارض، مفكر، سياسي، شخصية وطنية، مناضل، باحث، كاتب، صحافي، إعلامي، … إلخ، لا تعني شيئًا، ولذلك يكثر استخدامها بصورة اعتباطية.
إن إعادة المعاني إلى الكلمات مسألة مهمة جدًا، ومن دونها ستستمر حالة الفوضى في استخدام الكلمات والصفات والمفاهيم، وستتعمق وتتجذّر تأثيراتها السلبية؛ لن نستطيع تمييز المفكِّر من المثقف أو الأكاديمي أو الصحافي، ولا تمييز السياسي من المعارض أو المناضل أو المعتقل، ولا تمييز الهاوي من الناشط أو المحترف، وهكذا، ما يعني في المآل تسفيه الصفات كلها، وهو ما حدث خلال السنوات الماضية بنسبٍ متفاوتة.
لم يكن نادرًا أن يُطلق أحدهم على نفسه باحثًا في وقت لم يكتب فيه بحثًا واحدًا، أو أن يطلق آخر على نفسه مفكرًا وكل رصيده مجموعة من المقالات الصحفية التي تتعلق بالحدث المباشر، أو أن يقفز غيره من الصفة الأكاديمية إلى صفة المفكِّر أو الفيلسوف، على الرغم من أنه لم ينتج شيئًا ذا قيمة على الصعيد المعرفي. إذا أعجبنا معتقل سياسي ما، فلا مشكلة لدينا في منحه كل الصفات؛ ببساطة، يصبح مفكرًا، وسياسيًا، وشخصية وطنية. لا غرابة إذًا في أن يحتكر رأس النظام لنفسه كل الفضائل؛ فهو الوطني والمناضل والمفكِّر والمثقف والأب القائد والسياسي ورجل الدولة… إلخ. هذه ثقافة شمولية نعيش جميعنا في كنفها، وننهل منها.
كَثُر من هم في مرتبة “حكماء” الثورة السورية، مع أن قراءتهم للواقع ومساراته لم تزد على قراءة أي فرد عادي لا يدّعي أي صفة، إذ لم ينجح أيٌّ من تحليلات “حكمائنا” أولئك. ونادى سوريون كثيرون، في محطات مختلفة، بتأليف “مجلس حكماء”؛ لم ينجح تأليف المجلس، ربما بسبب كثرة الحكماء أو بسبب اعتراض الحكماء على درجة حكمة بعضهم بعضًا، أو لأنه أصلًا لا توجد معايير واضحة تعرِّف الحكيم وتميِّزه من غيره.
عُقدت مؤتمرات كثيرة، وفي كل منها كانت هناك على قائمة المدعوين شخصيات أُطلق عليها “شخصيات وطنية”، وهذه كانت تجد نفسها دائمًا فوق التنظيمات والقوى، ولديها “كرت أخضر” دائم. في أحد مؤتمرات المعارضة كان هناك ما يزيد على خمسين شخصية وطنية. عندما يزيد عدد الشخصيات التي نمنحها صفة “الشخصية الوطنية” كثيرًا، يعني ذلك، أو يقود إلى، أحد أمرين؛ الأول فقدان الصفة لمعناها والاستخفاف بها. الثاني؛ الكثرة الفائضة شقيقة الفقر المدقع في هذه الحالة، أي أن هذا يعكس فعلًا افتقارنا إلى شخصيات وطنية حقيقية.
تورَّط بعض “الشخصيات الوطنية” في خطاب أيديولوجي مغلق أو في خطاب قومي ينضح بالكراهية أو في خطاب طائفي، بصورة تتناقض مع معنى الوطنية ذاته. وتورَّط بعضها الآخر في سلوكيات سياسية وعلاقات إقليمية لا تترك شيئًا ذا قيمة لمعنى الشخصية الوطنية، ومارس بعضها تخريبًا متعمدًا بقصد الوصول إلى موقع قيادي ما على الرغم من خسارته في الانتخابات، فانقلب على النتائج الديمقراطية في وقتٍ يرفع فيه لواء الديمقراطية ويتحدث باسمها.
وشُحِنت كثير من الصفات بمقاييس أيديولوجية، فمعاني الصفات عند الإسلاميين مغايرة لما هي عليه عن العلمانيين، ومن ثم كانت أيقونات الثورة عند الجهتين غير متطابقة، فلكل جهة أيقوناتها ورموزها. عندما لا يكون هناك رأي عام وطني تُبتذل الصفات والأسماء والمعاني. صفة “الشهيد” من أكثر الصفات التي جرى ابتذالها، واستخدمت وفق مقاييس أيديولوجية وسياسية.
ساهم بعض الإعلام في خلق “أيقونات ثورية” بطريقة تتوافق مع اجترار التاريخ وحبس الحاضر والمستقبل في رمزية الماضي. لا يخفى على أحد أن وسائل الإعلام الغربية والعربية قد سلطت الضوء على شخصيات بعينها دون غيرها من أجل صناعة “أيقونات” ثورية وفق مقاسها أو بما يتوافق مع توجهاتها. لعبت القنوات الفضائية أيضًا دورًا سلبيًا في تسفيه المعاني؛ إذ روجت للصفات التي يدعيها الأفراد لأنفسهم من دون تدقيق أو معرفة، وأحيانًا سارت في هذا الطريق قصدًا بهدف الترويج لشخصيات بعينها، ربما لأنها تنتمي إلى الاتجاه العام الذي تتبناه القناة أو الدولة المموِّلة للقناة.
في كثير من الأحيان، تتضمن عملية المبالغة في مديح الآخر “الأيقونات” شكلًا من أشكال المديح الخفي للذات، مثلما تتضمن أيضًا عملية الحطّ من قدر وقيمة الآخر شكلًا من أشكال تبرئة الذات من الصفات المستخدمة في وصفه، وفي الحالتين يكون الادعاء سيد الموقف. نحن نتعامل مع الأفراد والأفكار والأشياء بطريقة سحرية تنطلق من التقديس أو التدنيس، المديح والذم، القبول المطلق والرفض المطلق، وليس غريبًا أن تجد أحدهم يُنزل فلانًا إلى الدرك الأسفل في لحظة ما، ومن ثمّ يجعله في رتبة الأنبياء في لحظة أخرى. هذا ليس له من اسم سوى النفاق؛ وهو ينطلق حكمًا من مصلحة المنافق في الحالتين لا من شخص الفرد الممدوح أو المذموم.
هناك من يسعى لتوليد أيقونات بصورة قسرية. ليس غريبًا أن تُعقد ندوات استعراضية يشارك فيها كتاب وباحثون لاستكشاف شخصية كان سرّ جاذبيتها أصلًا أنها قدمت نفسها ببساطة، ولم تدّعِ علمًا أو ثقافة أو قدرة، ولا تريد أو تطمح إلى أكثر من أداء دور إيجابي ما انطلاقًا من إحساسها بالظلم والقهر. بعض الناقدين الأدبيين يصلون إلى درجة الابتذال في استنطاق نص شعري ما، ويتحدثون عن معانٍ واكتشافات قد تكون بعيدة جدًا عن مقاصد الشاعر كاتب النصّ. هناك طرق عديدة لقتل الفرد، أحدها الإسفاف في مدحه، والإكثار من الحديث عن صفات ليست فيه، وسجنه في مواقع ليست ملكه، أو في الأحرى التعدّي على حق المرء في أن يكون طبيعيًا.
لا شك في أن الثورات تُظهِر إلى السطح أو الواجهة شخصياتٍ تنجح في ترك بصمة واضحة في مسارها، وهذا طبيعي وينبغي لنا تقدير هذه الشخصيات، لكن المشكلة تكمن في تحويلها إلى أيقونات فوق النقد، تحوز كل الصفات، من الألف إلى الياء، وتصبح عارفة في كل شيء، وقادرة على كل شيء. تشكِّل هذه الصفات الممنوحة، جهلًا أو نفاقًا أو حبًا أو طمعًا في مصلحة ما، نوعًا من الرهاب الذي يمنع النقد ويعطِّل التفكير النقدي، وربما تؤدّي إلى محو أخطاء كبيرة ارتكبت، وربما يُتحفنا آخرون، خلال سيرهم في “همروجة” المديح هذه، بإعادة قراءة التجربة والماضي بطريقة تجعل من الأخطاء التي ارتكبت حكمةً لا نستطيع اكتشاف مغزاها إلا بعد زمن بحكم قصور عقلنا!ّ
أداؤنا المرتكز على الأيقونات شكلٌ من أشكال الدفاع غير الواعي عن الذات المهزومة؛ نريد أن نؤكد حضورنا بالإكثار من الأيقونات، في حين أن ما يحدث فعليًا هو الإمعان في نزع المعاني من الكلمات لتصبح فارغة، والسماح بسيطرة اللامعنى والخواء على عقولنا وأرواحنا. لدينا تخمة حقيقية في “الأيقونات الثورية”؛ زاد مفكرو الثورة عن الحدّ، وزاد حكماؤها، وآباؤها، وأمهاتها، وحراسها، وفنانوها، وقادتها، وروّادها، إلى درجة تفيض عن حاجة ثورات العالم كلها في حين كانت الثورة نفسها، وما تزال، تسير بغير هدىً ولا بوصلة، ولا تجد من تتكئ عليه باطمئنان وثقة. في الحقيقة، إن كثرة الأيقونات ليس لها من معنى سوى الغياب الفعلي للأيقونات.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى