تتحضّر إيران منذ أشهر للعودة إلى المفاوضات المباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية حول برنامجها النووي، بعد أربع سنوات من التوتّرات والعقوبات والضربات المباشرة أو بالواسطة، التي أطاحت برجُلها العسكري الأقوى قاسم سليماني، وحاصرت اقتصادها وقلّصت من قدرتها على الإنفاق الخارجي، من دون أن تؤثّر فعليّاً على نفوذها الإقليمي.
ويدرك الإيرانيون أن إدارة بايدن تريد إحياء الاتفاق النووي السابق معهم، ومثله الملحق البالستي، وأن الأوروبيين يستعجلون في فيينا وأروقتها العودة إلى الاتفاق لرفع بعض العقوبات التي تسمح لشركاتهم بالاستثمار وتوقيع العقود. لكن الإيرانيين يدركون أيضاً أنه سيكون من المستحيل على واشنطن التراجع عن جميع عقوباتها دفعةً واحدة أو في مرحلة قصيرة الأمد كما يطالبون، أولاً لأن الكونغرس لن يوافق على هكذا رفع (خاصة في ما خصّ «الحرس الثوري» و»مكتب المرشد» والهيئات والكيانات المصنّفة إرهابية)، وثانياً لأن أي اتفاق جديد يصعب حصوله هذه المرة بمعزلٍ عن بحث موازٍ في سياسة إيران الخارجية، وفي مسارات بعض «الجبهات» التي فتحتها أو انخرطت في صراعاتها.
وهذا يعني أن على طهران القبول بما تعدّه تنازلات قبل توقيع الاتفاق الجديد، وعليها أيضاً القبول بشروط تقنية قبل الرفع التدريجي والجزئي للعقوبات.
على أن السياقين الداخلي الإيراني والشرق أوسطي اللذين قد تعود في ظلّهما المفاوضات المباشرة لا يسهّلان كثيراً على المفاوضين الإيرانيّين مهمّتهم. فروزنامة الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقبلة (في حزيران/يونيو 2021) ضاغطة على روحاني وحكومته وفريقها التفاوضي الذي يريد تقدّماً نوعياً قبل إجرائها؛ واللوبي الإسرائيلي في أمريكا يبذل جهده لتصعيب شروط الاتفاق المقبل، على وقع عمليات تستهدف المنشآت النووية الإيرانية وعلماء ذرة داخل إيران، وعمليات مضادة محدودة ضد بواخر إسرائيلية مبحرة على مقربة من الخليج. والتطوّرات في العراق وسوريا ولبنان واليمن يديرها من الناحية الإيرانية «الحرس الثوري» الذي لا سلطة لروحاني وظريف عليه، والذي لا يجد حتى الآن ضرورة لتنازلات لا تمليها الأحوال الميدانية.
ويمكن فهم تسريب حديث وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ضمن هذين السياقين، إذ ثمة شكوى في كلامه من هيمنة «الحرس الثوري» والقوى المتشدّدة المناهضة للاتفاق مع الأمريكيين على السياسة الخارجية، وثمة اتهام لسليماني بالتواصل سابقاً مع روسيا بهدف عرقلة كل تفاهم لأن موسكو تفضّل بقاء إيران في موقع تَخاصمٍ مع «الغرب» بما يتيح لها توسيع أدوارها.
وفي ما يخصّ الجبهات الخارجية الإيرانية، تُظهر الأحوال فيها وحولها صعوبة الوصول إلى تسويات جدّية مع الأمريكيين (وحلفائهم).
ففي الجبهة الأولى، العراق، تتّجه الأمور بعد التحدّيات التي واجهتها الهيمنة الإيرانية في السنتين الأخيرتين – بما في ذلك تحدّي الثورة الشعبية التي حاصرها العنف والقتل وكورونا – إلى نوع من التهدئة عقب اغتيال سليماني وقصف المواقع الأمريكية وردود الأخيرة في سوريا المجاورة. لكنّ التهدئة هذه معرّضة على الدوام لانتكاسات ولتصعيد وتبادل رسائل وفقاً لتقييم كل طرف لسلوك الحكومة في بغداد وتعاطيها مع ميليشيات «الحشد الشعبي» وأسلحتها ومع الملفات الاقتصادية ومع أحوال جنوب البلاد. وإيران تظهر تشدّداً تجاه كلّ ما قد يُضعف نفوذها ونفوذ حلفائها العراقيين، ولا تجد بالتالي موجباً لأي تراجع أمام الأمريكيين أو الخصوم المحليّين طالما أنها تستطيع استخدام أوراق أمنية «فعّالة» ضدّهم، وطالما أن لا احتمالات مواجهات عسكرية واسعة معهم.
وفي الجبهة الثانية، سوريا، لا يبدو أن ثمة تغييرات جذرية في المدى المنظور. فإيران التي تعرف أن أي حلّ دولي جدّي سيتطلّب خروجها من البلد، تسعى للتأكيد اليوم أنها الأكثر انتشاراً ميدانياً وأن تعاونها الوثيق مع روسيا لا يعني تسليماً بما تشاؤه الأخيرة إن تَعارَض مع رؤيتها وأن أيّ تفاوض غربي أو عربي أو تركي يجب أن يكون معها وليس فقط مع موسكو. فسوريا ممرّ إيراني لا غنى عنه نحو لبنان، وساحة يمكن من خلالها الردّ على الهجمات الإسرائيلية من دون التسبّب بمواجهات شاملة.
كما أن ترسيخ الحضور الإيراني الذي تطلّب تملّك أراض وعقارات وتهجير مدن وبلدات وإنشاء ميليشيات وشبكات علاقات واستقدام عشرات ألوف المقاتلين من العراق وأفغانستان وباكستان إضافة إلى مقاتلي حزب الله اللبناني، لا تراجع طوعياً عنه لما يمثّله للإيرانيين من سيطرة شبه كاملة على الحدود السورية اللبنانية، وجزئية على الحدود العراقية السورية، ومن مُحافظة على قوس استراتيجي حيوي ممتدّ من طهران إلى البحر المتوسّط وحدود إسرائيل.
وهذا يوصلنا إلى جبهة إيران الثالثة، أي لبنان، حيث لا يعاني النفوذ الإيراني راهناً من تهديد ولا يتطلّب جهداً إستثنائياً للدفاع عنه. ذلك أن الحليف المحلي، حزب الله، يمتلك فائض قوّة عسكرية وتنظيمية، ويملك تحالفات وغطاء سياسياً من الدولة نفسها عبر رئيس الجمهورية والبرلمان، في ظلّ تعطيل الحكومة وتراجع الانتفاضة الشعبية التي هدّدت السلطة القائمة على مدى أشهر قليلة. وإذا كان الانهيار المالي والاقتصادي يقلق عدداً من متابعي الشأن اللبناني والمتدخّلين فيه، فإن صداه في طهران لا يتخطّى التفكير بتقليص التوتّرات مرحلياً وتوسيع هامش القرار لحزب الله طالما أن لا خطر من فقدان هيمنة أو سيطرة تحفظ حرية الحركة من البلد وإليه عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية.
يبقى اليمن، وهو الجبهة الوحيدة المشتعلة، المتحوّل (بأقل كلفة إيرانية) إلى موضع استنزاف وخسارات متتالية للسعودية وحلفائها، إن عسكرياً أو إعلامياً، بما سيُملي في أيّ حل مستقبلي شراكة للحوثيّين في الحُكم. وهذا يعني للحرس الثوري أن لا حاجة لأي تفاوض حوله لأنه سيُتيح له في كل السيناريوهات موطئ قدمٍ على البحر الأحمر يمنحه قدرة على التأثير على الملاحة فيه وفي باب المندب، بموازاة تأثيره الحاسم على الملاحة في مضيق هرمز.
لكل هذه الأسباب، يصعب تقدير المواضع التي يرى الإيرانيون (الحرس الثوري تحديداً) أنفسهم مضطرّين للقبول بتنازلات كبرى فيها، في ما خلا دفع حلفائهم لبعض المرونة هنا، مقابل التلويح باستخدامهم لتصعيد هناك. وإذ يُدرك معظم المراقبين ذلك، يرون أن الحوافز الاقتصادية ومسألة العقوبات باتت وحدها ما قد يُعدّل من موازين القوى الداخلية في إيران لصالح «التفاوضيّين» أو «المعتدلين»، خاصة في ظل استبعاد جنوح إدارة بايدن نحو المواجهة، في العراق وفي سوريا، وهي المنكفئة كما سابقاتها عن اليمن ولبنان.
بهذا، تتّجه المنطقة على الأرجح إلى مرحلة بطيئة الإيقاع يحافظ فيها اللاعبون الأقوياء على مواقعهم في انتظار جلاء بعض الأسئلة والأولويات أمريكياً. وحده اقتراب إيران الحقيقي من إنتاج قنبلة نووية قد يغيّر المشهد المذكور ومقاربات معظم الأطراف له ولجبهاته… وهذا له حُكماً مبحثٌ آخر.
* كاتب وأكاديمي لبناني
المصدر: القدس العربي