من بين مساهمات جو ناي الأكثر ديمومة في الإستراتيجية واحدة كان قد أشاعها قبل 30 عامًا: مفهومه عن “القوة الناعمة”. وفي ذلك الحين كتب ناي أن القوة تتعلق بقدرة الدول على “فعل الأشياء والتحكم في الآخرين”. وقد شهدت أدوات “القوة الصلبة” مثل القوة العسكرية، تناقصاً في الأهمية، في حين كان دور أدوات “القوة الناعمة”، مثل القوة التكنولوجية والاقتصادية والتعليمية، في صعود.
تعرض تجربة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط على مدى العقدين الماضيين سجلاً متقلبًا للقوتين؛ الصلبة والناعمة، على حد سواء. ويكمن جزء من المشكلة في التركيز بشكل ضيق للغاية على قضية “القوة” نفسها.
يتحدث الناس عن قوة ونفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط كما لو أنهما الشيء نفسه، لكنهما في الحقيقة ليسا كذلك. ولأن حكومة الولايات المتحدة اعتبرتهما مترادفين، أدى عمل عقدين من جهود الحكومة الأميركية لممارسة القوة من أجل بناء النفوذ إلى تضاؤل كليهما معاً. ما تزال الولايات المتحدة تحتفظ بنفوذ هائل في الشرق الأوسط، ومن شأن وضع تركيز أكبر على بناء النفوذ بدلاً من الحفاظ على القوة أن يفعل أكثر من مجرد تعزيز المصالح الأميركية هناك. كما أنه سيفيد الولايات المتحدة في عالم يشهد توترات متصاعدة بين القوى العظمى.
ما الفرق بين القوة النفوذ؟ يعطينا تعريف ناي للقوة -“فعل الأشياء والتحكم في الآخرين”- نقطة انطلاق جيدة. في جوهرها، تتعلق القوة باستخدام الموارد لتحقيق نتائج متمايزة. وقد أمضت حكومة الولايات المتحدة 75 عامًا في تطوير العمليات التي تؤطر أهدافًا قابلة للتعريف (وفي الوضع المثالي، قابلة للقياس) وتسعى إلى تحقيقها. وتنتمي الأدوات العسكرية إلى منطقة تحليل القوة، ليس فقط لأن الجيش بارع في المقاييس، وإنما لأن عمله يتيح الاستيلاء على الأرض، واستسلام الجيوش، وتدمير الأهداف.
وقد أصبح البيروقراطيون أفضل في ممارسة القوة أيضًا. وهم يضعون خططًا متعددة النقاط ومخططات توضيحية ملونة لحساب ملايين -أو مليارات- الدولارات التي يجري إنفاقها. ويكتبون التقارير للاحتفال بنجاحاتهم وتحليل أوجه القصور لديهم.
لكن التكتيكات طغت على الإستراتيجية. وفي حين تستحضر الولايات المتحدة خطط عمل متقنة، فإنها تقصر دائماً عن بلوغ أهدافها. هناك دائمًا أهداف تم تفويتها وأهداف لم يتم تحقيقها؛ وتختلط العواقب غير المقصودة بالفشل الذريع. وفي كل مرة تفعل ذلك، فإنها تضيف مَعلَماً يؤشر على تلاشي قوة الولايات المتحدة.
في المقابل، اتخذت روسيا والصين نهجًا مختلفًا لإدارة شؤونهما في الشرق الأوسط. بتخليهما عن أي ادعاء بأنهما قادرتان على التحكم في النتائج، تسعى الدولتان إلى التأثير عليها بدلاً من ذلك. وفي سعيهما للتأثير، تسعيان إلى تحقيق مجموعة أهداف محددة بشكل أضيق، وتركزان على ما يمكنهما منعه بقدر ما يمكنهما أن تتسببا فيه، وتتبنيان مفاهيم واسعة للنجاح. والمستوى العام لجهودهما متواضع، والخطوات التي تتخذانها مصممة بعناية لكي تتلاءم مع استراتيجيتيهما.
أحد الأمثلة على هذا النهج هو الانخراط الروسي في سورية: مع أنها التزمت بالتصميم على الحيلولة دون سقوط الأسد، التزمت موسكو بنشر حوالي 5000 جندي وأقل من عشرين طائرة ثابتة الجناحين فقط، ولكن لم تكن لديها خطة رئيسية لمستقبل البلاد. وبالمثل، أدارت الصين ببراعة علاقاتها مع طهران لجني الفوائد من كل من الولايات المتحدة وإيران، مع عدم وجود رؤية بعيدة المدى لما يحدث للبرنامج النووي الإيراني.
ولا يقتصر الأمر على أن هاتين الدولتين تجدان نفسيهما وهما تربحان مرارًا وتكرارًا فحسب، بل إنهما تجدان أيضًا أن من الممكن هزيمة أو إحباط ممارسة الولايات المتحدة للقوة في المنطقة بجهد ضئيل نسبيًا. وعندما تقصر الولايات المتحدة عن تحقيق شيء، تنجح موسكو وبكين في تصوير ذلك على أنه انتصار ضمني لهما وهزيمة لواشنطن. وفي أعقاب ما يتم عرضه على أنه انتصارات متكررة، تجني الدولتان الثمار في منطقة تسعى إلى الاستفادة من نفوذهما المتصاعد.
مع ذلك، في عالم النفوذ، تشكل الولايات المتحدة قوة عظمى في الشرق الأوسط، بينما تتأخر روسيا والصين في الخلف. الشركات الكبيرة تعمل وفقًا للمعايير الأميركية، وتسيطر الولايات المتحدة على أكبر تجمع من المستثمرين، وغالبًا ما تتم المعاملات والتحويلات ذات رأس المال الكبير باللغة الإنجليزية. وتتبنى المؤسسات الدولية حول العالم نموذجاً يتوافق مع نظيراتها في الولايات المتحدة. وتبقى العملية التي تديرها الحكومة الأميركية للتنسيق بين الوكالات، على الرغم من كونها مرهقة، فريدة لا مثيل لها في أي مكان آخر، ويمكن للولايات المتحدة أن تنسق تحركات الآلاف من المتخصصين الحكوميين -من الولايات المتحدة وخارجها- بطرق لا يمكن لأي دولة أخرى أن تأمل بمحاكاتها. وتحتفظ الولايات المتحدة بكل عناصر القوة الناعمة التي ذكرها ناي: الروابط التعليمية، والقوة الاقتصادية، والوزن الثقافي وغير ذلك. ومن هنا تأتي قدرة الولايات المتحدة على القيادة التي لا يضاهيها شيء في العالم.
وما تزال القوة الصلبة للولايات المتحدة هائلة كما كانت في أي وقت مضى أيضاً. فالجيش الأميركي يستطيع هزيمة أي خصم، وقدرة أميركا على فحص البيانات في أي مكان في العالم لتحديد الأشخاص والأماكن والأشياء لا تُدانى. ومن حيث القيمة المطلقة، فإن نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط يتجاوز بأشواط كبيرة نفوذ أي دولة أخرى. وفقط عندما تصر الولايات المتحدة على السعي وراء “القوة” -أي التحكم في النتائج- بينما يسعى الخصوم إلى التأثير عليها فقط، تظهر الولايات المتحدة كخاسر ويخرج الخصوم منتصرين.
لا يترتب على ذلك أنه يجب على الولايات المتحدة أن ترمي المنشفة في الشرق الأوسط. بدلاً من ذلك، يجب أن تكون أكثر وعياً في طريقة انخراطها. ويعني ذلك جزئيًا أشياء واضحة، مثل أن تكون أكثر تأنياً واقتصاداً في استخدام القوة العسكرية. ولكنه يعني أيضًا أشياء أقل وضوحًا، مثل تحديد أهداف أقل شمولًا، ودمج نطاق أوسع من النتائج المرغوبة (وحتى المقبولة) في التخطيط، وتكوين إدراك أوضح عن الكيفية التي يمكن بها لمجموعة متنوعة من النتائج أن تخدم مصالح الولايات المتحدة. وهو يعني أيضًا أن تكون الولايات المتحدة أكثر تحديدًا بشأن ما تحاول منع حدوثه، ويعني أن تكون أكثر استعدادًا لإحباط خطط الآخرين -ليس لأن ذلك يعزز مصالح أميركية منفصلة، وإنما لأنه يعطل قدرة الخصوم على تعزيز مصالحهم. وهو يعني التأكيد أن لدى الولايات المتحدة قدرة على ضمان النفوذ والتأثير على الأشياء في المنطقة أكبر من أي لاعبين آخرين، بدلاً من جلد نفسها بشأن عدم قدرتها على تحقيق ما تسعى إلى تحقيقه بالضبط.
لا تقترح هذه العملية لإعادة تحديد موضع التركيز انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، على الرغم من أن البعض يشيرون إلى ضرورة أن تفعل. كما أنها لا تقترح أن تتنازل الولايات المتحدة عن المنطقة لروسيا أو للصين. إنها دعوة إلى المواءمة بين مقدار وصول الولايات المتحدة وشدة قبضتها أو لينها، والتركيز على الأمور المهمة. وهناك بالتأكيد ظروف تكون فيها القوة الوطنية كل شيء. وعندما يتعلق الأمر بذلك، فإن الولايات المتحدة ليس لها نظير. لكن ما تحتاجه الولايات المتحدة حقاً، في العديد من الظروف، هو النفوذ وإمكانية التأثير. وسوف يكون من شأن التركيز على ما يمكن أن تفعله لتعزيز مصالحها وعرقلة خصومها بدلاً من التركيز على ما تأمل في القيام به لكنها لا تستطيع، أن يؤدي إلى موقف أكثر استدامة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والذي يخدم مصالحها بشكل أفضل.
*Jon B. Alterman: هو نائب أول للرئيس، ويشغل كرسي زبغنيو بريجينسكي للأمن العالمي والجيوستراتيجي، ومدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Focus on Influence, Not Power, in the Middle East
المصدر: الغد الأردنية/ (مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية)