تنفق إيران حالياً ما لا يقل عن 6 مليارات دولار سنوياً لدعم الأسد، وأدّى تدخلها في سوريا إلى قيام تحالف ضمني مع روسيا. وفي هذا الصدد، يبحث ثلاثة خبراء الاتساع المذهل للهيمنة الإيرانية على دمشق وما يعنيه ذلك لأي خطط أمريكية لتعزيز الاستقرار في سوريا أو إعادة فتح المفاوضات مع طهران.
“في 25 آذار/مارس، عقد معهد واشنطن منتدى سياسي افتراضي مع عُلا الرفاعي ونكيسا جهانباني ومهدي خلجي. والرفاعي هي زميلة في “برنامج غيدولد للسياسة العربية” في المعهد ومؤلفة دراسته الجديدة “في خدمة الأيديولوجيا: الأنشطة الدينية والاجتماعية والاقتصادية الإيرانية في سوريا”. وجهانباني هي باحثة في “مركز مكافحة الإرهاب في ويست بوينت” وأستاذة مساعدة في “قسم العلوم الاجتماعية” بالأكاديمية. وخلجي هو زميل “ليبيتزكي فاميلي” في المعهد وكان قد درس علم اللاهوت الشيعي وتدرب في قم. وفيما يلي ملخص المقرر لملاحظاتهم”.
عُلا الرفاعي
تهدف سياسة إيران تجاه سوريا إلى تزويد الجمهورية الإسلامية بعمق استراتيجي. ومع ذلك، بينما تميل الحكمة التقليدية إلى التركيز على الأنشطة العسكرية، إلا أن طهران استثمرت أيضاً الكثير من موارد القوة الناعمة في محاولة للتلاعب بالدولة السورية. وتبدو بعض هذه الموارد، مثل برامج تطوير قطاع التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية، غير ضارة للوهلة الأولى ولكنها غالباً ما تكون مصحوبة بشروط.
خلال السنوات العشر الماضية، استعانت طهران بالبنية التحتية الدينية الشيعية القائمة في سوريا وبنت أخرى خاصة بها. وبخلاف الوالد الراحل لبشار الأسد، الذي كان يتمتع بنفوذ أكبر في العلاقة الثنائية، تنازل الرئيس الحالي عن قسم كبير من سيطرته على الأمور الدينية لصالح “الحرس الثوري الإسلامي” الإيراني. وبعد سنوات من التدهور في النظام والجيش في سوريا، تُراهن إيران على الهيمنة الاستراتيجية وليس على إقامة تحالف. ومن خلال الترويج للإسلام الشيعي الإثني عشري كجزء لا يتجزأ من الهوية الشيعية السورية، تُغيّر طهران السياق الاجتماعي للبلاد. وخلال السنوات القليلة الماضية اعتنق آلاف السوريين هذا الفرع من الإسلام، ويعود السبب في الكثير من الحالات إلى أن ذلك يمنحهم معاملة أفضل من قبل الميليشيات المدعومة من إيران في وقت لا يزال فيه الوضع الاقتصادي مزرياً.
وتحاول طهران أيضاً تعزيز السياحة الدينية في سوريا. فحتى منتصف السبعينيات، لم يكن في سوريا مدارس شيعية، لكن اليوم تضم البلاد ما لا يقل عن 70 من هذه المدارس. وتستقطب هذه المؤسسات الأفراد الشيعة من كافة الجنسيات، ويصبح الكثير منهم مواطنين سوريين في النهاية. فضلاً عن ذلك، غالباً ما تتجنب هذه المدارس التسجيل في وزارة الأوقاف السورية، مما يمنح إيران سيطرة كاملة على مناهجها التعليمية.
في تشرين الأول/أكتوبر 2014، أصدر الأسد مرسوماً يقضي بضرورة قيام وزارة التربية والتعليم السورية بتوفير الدراسات الشيعية كجزء من المناهج الدراسية في المدارس والكليات والجامعات على مستوى البلاد. وبالتزامن مع ذلك، فُرضت قيود على دور العلماء السنّة في التعليم العام. يُذكر أن إيران كانت تدير أساساً العديد من المدارس السورية في ذلك الوقت، لكن عددها ازداد بشكل ملحوظ في السنوات التالية، كما أسفرت المنح الأكاديمية الجذابة إلى استقطاب العديد من الطلاب الأجانب إلى هذه المدارس.
وبالتوازي مع هذا التغلغل التعليمي الرسمي، أطلقت إيران برامج شبابية أكثر حداثةً مثل “كشافة الإمام المهدي” و”كشافة الولاية”. ويقود “الحرس الثوري” هذه الجماعات التي غالباً ما تكون ضالعة بتدريبات عسكرية؛ وقد جعلها ذلك بمثابة قناة لجذب الأطفال إلى الخطوط الأمامية حيث غالباً ما يلقون حتفهم وهم يقاتلون لصالح الميليشيات الشيعية ونظام الأسد.
وتَستخدم إيران أيضاً المساعدات لاكتساب موطئ قدم في الاقتصاد السوري، بما في ذلك من خلال مشاريع الإسكان والبنية التحتية. وتميل هذه البرامج إلى استهداف المناطق المكتظة بالسكان من جمهور أنصار الجماعات العلوية الرئيسية المؤيدة لنظام الأسد، وغالباً ما تعود أهدافها الثانوية بالفائدة على المصالح الإيرانية (على سبيل المثال، تغيير المعالم السكانية المحلية لتعزيز ارتقاء الأحياء السكنية الشيعية).
وعموماً، تنفق إيران حالياً ما لا يقل عن 6 مليارات دولار سنوياً لدعم الأسد، لكن هذا المشروع واسع جداً ولا يقتصر على قطاع واحد أو مسؤول بارز واحد. على سبيل المثال، لم يؤثر مقتل قائد “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري الإسلامي” قاسم سليماني، الذي كان يتمتع بالقوة ويحظى بشعبية كبيرة، على أي من مبادرات القوة الناعمة الإيرانية داخل سوريا. وتعمل طهران وفقاً لجدول زمني أطول أمداً بكثير، يمتد ربما خمسة وعشرين عاماً أو حتى خمسين عاماً، وقد ساهمت برامجها التعليمية والدينية بشكل مطرد في تربية جيل قد ينتهي به الأمر إلى الولاء الشديد للنظام الإيراني.
ولهذه الأسباب وغيرها، لن تكون الضربات الجوية كافية لمواجهة النفوذ الإيراني داخل سوريا. على المجتمع الدولي أيضاً دعم الناشطين المحليين من المجتمع المدني والصحفيين-المواطنين الذين ينشرون أخباراً عن أنشطة إيران. علاوة على ذلك، يجب على أي اتفاق نووي جديد مع طهران أن يعالج استراتيجيتها الإقليمية. فقد كانت هذه مشكلة كبيرة في الاتفاق السابق – حيث مُنِحت إيران الضوء الأخضر في سوريا، وعلى إدارة بايدن ألا تكرر هذا الخطأ.
نكيسا جهانباني
ازدادت استثمارات إيران في القوة الناعمة ومشاركتها العسكرية غير المباشرة في سوريا منذ عام 2015. وقبل ذلك، اعتمدت طهران على المشاركة العسكرية المباشرة، لكن الخسائر الفادحة التي تكبدتها أرغمت “الحرس الثوري” الإيراني على الانتقال إلى أساليب غير مباشرة على نحو أكبر لتحقيق أهدافه.
وبشكل عام، تمثل الميليشيات الوكيلة مكوناً أساسياً في استراتيجية إيران الكبرى، مما يمكّنها من مواجهة خصومها بالإنكار، وتقليل التداعيات على سمعتها، وترسيخ نظرتها العالمية في أوساط المجتمعات الشيعية في الخارج. وفي الوقت نفسه، تستفيد الميليشيات المعنية من الأسلحة التي تتلقاها والتي لم يكن بإمكانها الحصول عليها، مما يعزّز قوتها مقارنةً بالجماعات المنافسة.
وفي السنوات الأخيرة، انقسم دعم إيران للميليشيات إلى فئتين أساسيتين: حركية وغير حركية. وبلغ الدعم الحركي ذروته بين عامي 2015 و2016 تقريباً وانطوى على مشاركة مباشرة من قبل القوات العسكرية الإيرانية. أما الانخراط غير الحركي، والذي أصبح أكثر شيوعاً الآن، فيستلزم مساعدة الميليشيات في التجنيد وتزويدها بالأموال، من بين أشكال الدعم الأخرى. ويفسِّر معدل الوفيات الكبير في صفوف “الحرس الثوري الإسلامي” في سوريا جزئياً هذا التحوّل إلى الدعم غير المباشر، غير أن العقوبات الخارجية ربما تكون قد لعبت دوراً أيضاً من خلال منح طهران حافزاً أكبر لتقليص تواجدها الظاهر في النزاع.
لقد ركزت العديد من جهود التجنيد الإيرانية في سوريا على تعزيز الروابط مع الأقليات (والتي تشمل الدروز)، غالباً من خلال المساعدة المالية والخدمات الاجتماعية والمساعدات المباشرة إلى عوائل “الشهداء”. ومع ذلك، يميل “الحرس الثوري الإسلامي” إلى تقديم مزايا أفضل إلى الأشخاص الراغبين في اعتناق المذهب الشيعي. وبالتالي، فإن تقديم حوافز مالية للسوريين يمكن أن يساعد في الحد من جاذبية الميليشيات. ومن المهم أيضاً معالجة استراتيجيات التجنيد الإلكترونية التي تقوم بها الجماعات المسلحة.
مهدي خلجي
النظام في إيران استبدادي وتوسعي، ودائماً ما يعرّف قادتها سوريا بأنها “ولاية” ولديهم الحق والقدرة على التحكم بها على النحو الذي يرونه مناسباً. وبناءً على ذلك، استمر اهتمامهم الاستراتيجي بسوريا وعائلة الأسد لعقود من الزمن.
خلال الحرب بين العراق وإيران، غالباً ما وصف صدام حسين النزاع على أنه صراع بين العرب والإيرانيين. وسعت طهران إلى تحجيم هذه الرسالة العربية من خلال إقامة علاقات ودية مع دمشق. ولا تزال هذه التداعيات الاستراتيجية قائمة في يومنا هذا، حيث تحتاج إيران إلى شركاء عرب تجمعهم صداقات بها لمساعدتها على اكتساب موطئ قدم وتعزيز سمعتها في الشرق الأوسط الكبير.
وترغب طهران أن ترى المزيد من السوريين يعتنقون المذهب الشيعي، وقد اتخذ وكلائها خطوات لتسهيل تحقيق هذا الهدف. وفي هذا السياق، أصبحت “التقيّة” أكثر انتشاراً على المستوى المحلي. وعندما واجه السوريون ضغوط شديدة لتغيير معتقداتهم، استجاب العديد منهم لهذه الضغوط بشكل غير علني من أجل تلقيهم معاملة أفضل من الميليشيات المدعومة من إيران، ولكن من دون الإفصاح عن ذلك علناً.
ومن حيث التداعيات الجيواستراتيجية الأوسع نطاقاً، أدّى تدخل إيران إلى قيام تحالف ضمني مع روسيا. وتحاول طهران تهديد المصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، وهذا الوضع يعود بالفائدة على موسكو أيضاً. وعلى الرغم من أن البلدين يتنافسان ويختلفان حول قضايا معينة، إلا أنهما يشتركان في العديد من الأهداف في سوريا.
وخلال الفترة المقبلة، لا يجب أن تستثني المفاوضات مع إيران أنشطة “الحرس الثوري الإسلامي” في المنطقة. وفي حين تعاملت “خطة العمل الشاملة المشتركة” مع كل من الملف النووي والملف الإقليمي على أنهما ملفان منفصلان، إلا أنهما يندرجان ضمن إطار الاستراتيجية نفسها. يجب على أي اتفاق جديد أن يتطلب ضمانات لمنع طهران من محاولة السيطرة على المنطقة عن طريق وكلائها.
أعد هذا الملخص كالفن وايلدر
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى