التطورات التي شهدتها الساحة العراقية في الساعات الأخيرة، والتي انتهت الى قرار حاسم اتخذه رئيس الجمهورية برهم صالح بتكليف رئيس “كتلة النصر” البرلمانية عدنان الزرفي، من خارج ترشيح الكتلة الاكبر لتشكيل الحكومة العراقية الجديدة، بعد نحو مئة يوم من الفراغ في هذا المنصب، نتيجة لاستقالة عادل عبد المهدي تحت ضغط الشارع المنتفض، وموقف المرجعية في النجف السلبي من اداء حكومته. هذه التطورات قد تعني أن الحياة السياسية العراقية باتت موزعة بين محورين تضيق مساحات التفاهم والتلاقي بينهما، وان الرئيس صالح قد حسم خياراته بالذهاب الى خيار المواجهة، منتقلاً الى الصف الأول للمحور الذي يرغب في حسم الامور والخروج من نفق الفراغ، والحد من هيمنة المحور المقابل ونفوذه، الذي لا يريد الإفراج عن رئاسة الوزراء إلا بالشروط التي يريدها وتضمن له مصالحه ومصالح الحليف الذي يدعمه.
اختار برهم صالح الدخول في مواجهة مع المحور الإيراني بتكليف شخصية تنتمي الى “تحالف النصر” الذي يقوده رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، في ظل اجواء لدى شريحة واسعة من القوى والتيارات العراقية التي ترغب بأن تكون هذه الخيارات على العكس من المهمة المؤقتة التي جاءت بها الحكومة، أي أن تؤسس لمرحلة جديدة في العملية السياسية في العراق تسمح بالحد من تأثير وتغوّل القوى والجماعات المحسوبة على المحور الإيراني في الإمساك بمقدرات السلطة والعملية السياسية.
ردود الفعل المرحبة بهذا الخيار لم تتأخر، اذ أبدت القوى المدنية والجماعات الشبابية المؤثرة في ساحات الاعتراض ترحيبها بهذا التكليف، معتبرة انه يكسر الجمود الحاصل في العملية السياسية، ويدل إلى قدرة العراقيين في الخروج من الخيار الإيراني، خصوصاً وان هذا الترشيح شكل محفزاً للمكونات العراقية باعلان موقفها الداعم للزرفي في هذه المهمة، على العكس من سلفه في هذه المهمة محمد توفيق علاوي الذي اجمعت كل الاطراف على نزاهته ووطنيته، الا انها ابدت تخوفها من عدم قدرته العبور بالعراق من الأزمة التي يمر بها، إذ نال الزرفي، وبعد ساعات من تكليفه، تأييد التحالف الكردستاني فضلاً عن القوى السنية، ما وفّر له ولمهمته، الغطاء الوطني الذي يمثل أهم المكونات العراقية المذهبية والدينية والقومية، على الرغم من التأييد الشيعي غير الشامل والذي يقتصر على “تحالف النصر” و”كتلة سائرون” بزعامة مقتدى الصدر، إضافة الى عدد من النواب المتفرقين. وهذا يكشف حقائق عدة.
فالتأييد الشيعي للزرفي سيكون ضعيفاً على الرغم من وقوف “سائرون” الى جانبه، فمعظم القوى الشيعية وكتلها البرلمانية، لم توافق على آلية اختياره مثل “تيار الحكمة” بزعامة عمار الحكيم، الذي ذهب الى اعلان موقف منفرد عن القوى الشيعية التي اجتمعت لاعلان موقفها، في حين لم تتردد القوى الاخرى في “كتلة الفتح” بزعامة هادي العامري، و”دولة القانون” بزعامة نوري المالكي، والمجلس الأعلى برئاسة همام حمودي، ومستشار الامن الوطني فالح الفياض، و”عصائب اهل الحق” بزعامة قيس الخزعلي، وفصائل “الحشد الشعبي” مثل “كتائب الامام علي” بزعامة شبل الزيدي، و”كتائب سيد الشهداء” بزعامة آلاء الولائي، و”حركة النجباء” بزعامة اكرم الكعبي، مجتمعة او منفصلة، في اعلان رفضها لهذا التكليف ولهذه التسمية، ولم تتردد في التلميح الى امكانية ان يؤدي هذا الخيار الى نتائج سلبية تنعكس على الامن والاستقرار.
الفصائل المعارضة لتسمية الزرفي والتي تعتبر ممثلة للتوجهات الإيرانية على الساحة العراقية، لم تتردد في الاشهر الاخيرة، من اتهام الزرفي بالتورط بالاحداث واعمال الشغب التي شهدتها مدينة النجف خلال التظاهرات الواسعة وانتهت الى حرق القنصلية الإيرانية ومواجهات دامية في شوارع المدينة.
الانقسام بين “سائرون” ومقتدى الصدر من جهة، وفصائل الحشد من جهة اخرى حول الزرفي، يعني ان التفاهمات التي تم التوصل اليها بين هذه الاطراف نتيجة الجهود التي بذلتها طهران، بعد اغتيال قاسم سليماني للتقريب بينها وعقد المصالحة بين الصدر والخزعلي والكعبي والزيدي قد انكسرت، وهذا سينعكس سلباً على الجهود التي قامت بها إيران من اجل انشاء جبهة عراقية “لمقاومة” الوجود الأميركي في العراق، إذ من المفترض ان تتولى هذه الجبهة عملية المواجهة مع هذا الوجود والعمل على اخراجه ليس من العراق فقط، بل من كل غرب آسيا.
وفي حال لم تعمد الفصائل والقوى الرافضة لتكليف الزرفي الى اعادة قراءة الموقف والتطورات، وفي حال حصل الزرفي على الاصوات الكافية لتمرير حكومته امام البرلمان، فانها ستسهم في اخراج نفسها من اللعبة السياسية داخل الحكومة، وستفرض على نفسها ان تكون في صفوف المعارضة وبالتالي التأسيس لمرحلة جديدة قد تعقد آلية عودتها الى السلطة في المستقبل، خصوصاً وان الشارع العراقي يحملها مسؤولية التراجع الذي يعاني منه العراق، الى جانب تورطها في عمليات الفساد المالي والاداري والاقتصادي وحتى الأمني والعسكري. ومعارضة هذه الفصائل ستبقى في إطار القوى الشيعية، ولن تتوسع لتضم اليها سوى أفراد من المكونات الاخرى، الأمر الذي يضع الاستثمار الإيراني في هذه القوى موضع تساؤل، لانه قد يكون عاجزاً عن فرض المعادلة التي ترغب بها طهران، وبالتالي فانه قد يؤسس لمحاصرة هذا الدور وتراجع النفوذ لصالح المعارضين والخصوم.
يمكن القول ان الفصائل والقوى الشيعية المتحالفة مع ايران قد انتقلت الى مرحلة جديدة من الدور والنفوذ مختلفة عما سبق في السنوات الماضية، وعلى طهران الاعتراف بأن مراكمة الأخطاء المباشرة او تلك التي قام بها هؤلاء الحلفاء انتهت الى هذه النتيجة من التراجع السياسي والشعبي، وان المرحلة المقبلة ستضعها مع هذه القوى امام واحد من خيارين، اما الذهاب الى تفجير الساحة العراقية وافشال عملية تأليف الحكومة حتى ولو كان ذلك عن طريق السلاح، واما ان تتحلى بمستوى غير مسبوق من البراغماتية بالانحناء للمرحلة وتمريرها ومحاولة تقليل الخسائر بفتح باب الحوار مع الرئيس المكلف للحصول على حصة في السلطة تضمن عدم خروج حلفائها او استبعادهم.
المعادلة التي حاول تثبيتها سليماني بعد تسمية الرئاسات الثلاثة قبل أكثر من سنة، بانتصار الخيار الإيراني في العراق على الخيار الأميركي وان طهران حققت نتيجة 3 الى صفر في معركة الرئاسات بينها وبين واشنطن، هي معادلة لم تعد صالحة بعد الان، بعد الخيارات التي اعتمدها رئيس الجمهورية، وآخرها تبني ترشيح الزرفي، في حين ان رئيس البرلمان محمد الحلبوسي ابدى الكثير من الاشارات في رغبته التخلص من التأثير الإيراني في إطار تثبيت زعامته داخل المكون السني، وحاجته للعمق العربي في هذا الإطار. وعليه يبدو أن اللاعب الأميركي حقق تقدماً واضحاً في جهود تحجيم الدور والنفوذ الإيرانيين في العراق، ولم يتردد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في المسارعة للترحيب “الحذر” بتكليف الزرفي، واضعاً المساعدة الأميركية للرئيس المكلف والحكومة العراقية، تحت شرط تنفيذ المطالب الدولية بالحياد والمحاسبة والدفاع عن الديمقراطية وتعزيز الدولة، مفضلا ًعدم التسرع باعلان اي انتصار، وقد يكون ذلك من باب المراهنة على ترك الباب مفتوحاً امام طهران للعودة الى طاولة المفاوضات.
المصدر: اندبندنت عربية