يمكن إجمال ما تقوله طهران للولايات المتحدة والدول الأوروبية بالآتي: ليكن معلوماً أن أي تفاوض لن ينجح إلا إذا حصلت إيران على ما تريده، بطريقة أو بأخرى. ولن تتخلّى إلا عمّا صممته مسبقاً لتتنازل عنه. ولن تتفاوض على أي تعديل للاتفاق النووي إلا في حالَين، إما انتزاع توافق مسبق على استبعاد أي بحث في برنامجها الصاروخي وسياساتها الإقليمية، أو إخضاع الملفات الثلاثة لتفاوض شامل… بعد رفع كل العقوبات.
هذه ليست تكهّنات تحليلية بل دروس مستخلصة من منهجية التفاوض الإيرانية مع إدارة باراك أوباما، حين كانت العقوبات محدودة، وقد تنازلت تلك الإدارة عن ملف الصواريخ للحصول على اتفاق يقيّد البرنامج النووي، لكنها بالغت في غضّ النظر عن التدخّلات الإقليمية لإيران بما انطوت عليه من جرائم وتخريب، بل ذهبت في “حسن النيّة” والسذاجة الى حدّ الاعتقاد أن النظام الإيراني سيبادر تلقائياً الى “تغيير سلوكه” في الإقليم.
لا شك بأن جو بايدن تعلّم من تجربة سلفه دونالد ترامب أن سياسة “الضغوط القصوى” وتشديد العقوبات لم تثمر، وأنها قادت الولايات المتحدة الى شفير مواجهة عسكرية لا تريدها مع إيران وميليشياتها. لكن يفترض أن يكون قد لمس مباشرةً أيضاً أن المساومة التي شارك فيها سلفه الآخر أوباما أدّت بأهدافها الموهومة الى نتائج عكسية بائسة ظهرت مفاعيلها سريعاً. أي أن التشدّد مع إيران يقود الى حرب تتجنّبها أميركا أو الى لا شيء، وأن الدبلوماسية تفضي الى ما تريده إيران وما يخدم سياساتها مقابل تنازلات موقتة أو شكلية لا تؤثّر في استراتيجيتها. ثم إن المعادلة التي اعتمدتها إدارة أوباما، لانتزاع القدرة النووية لإيران أو تجميدها لقاء “تعويضها” بترك أنشطتها الأخرى بلا ضوابط أو روادع، ما لبثت أن أقنعت إيران بأن نهجها العدواني يلقى قبولاً دولياً متوّجاً بقبول أميركي.
في الواقع الذي تواجهه إدارة بايدن اليوم ثلاثة أوضاع متغيّرة عمّا كانت عليه عشية اتفاق 2015، وستنعكس على المفاوضات المقبلة:
أولاً – في الشأن النووي، ابتعدت إيران عن مضمون الاتفاق لتقترب أكثر من هدفها العسكري، واضعة عقبات عدّة أمام التفاوض المزمع: 1) استئناف التخصيب بنسب أعلى من تلك التي حدّدها الاتفاق (3.67%) وصولاً الى 20% (بقانون خاص من مجلس الشورى). 2) تخزين اليورانيوم المخصّب بكميّات أعلى من المسموح به. 3) استخدام أجهزة الطرد المركزي المطوّرة المحظورة وبأعداد أكبر. 4) تغيير مواقع المنشآت أو إخفاؤها والتلويح بوقف العمل بـ”البروتوكول الإضافي” الذي يجيز لمفتشي وكالة الطاقة الذرّية الكشف المفاجئ على منشأت غير معلنة… قياساً الى مفاوضات سابقة ستتطلّب هذه النقاط تفاوضاً جديداً لإعادة الالتزامات الى ما كانت عليه قبل عامين، قبل بدء التفاوض على تعديل الاتفاق.
ثانياً – في الملف الصاروخي، استندت إيران الى الاتفاق النووي فتجاوزت كل الحدود المتصوّرة في تصنيع صواريخها وتطويرها من دون أن تكشف عمّا بلغته فعلاً، لكن الأجهزة الغربية متيقّنة بأن ترسانتها أحرزت تقدّماً مهمّاً. والأهم أن إيران نقلت علناً أنواعاً من الصواريخ الى ميليشياتها، المصنّفة عموماً، بشكل رسمي أو غير رسمي، منظمات إرهابية. إذ بات معلوماً أن “حزب الله” اللبناني لا يملك فقط صواريخ ذكية بل اكتسب أيضاً خبرة تحديث صواريخه القديمة، وأنه شارك ويشارك مباشرة في كل الأنشطة الصاروخية والطائرات المسيّرة للميليشيات الأخرى في العراق حيث تستخدم ضد القوات الأميركية، وفي سوريا حيث يستمرّ العمل على شبكة جنوبية موصولة بشبكة في جنوب لبنان، كذلك في اليمن حيث صعّد الحوثيّون وكثّفوا أخيراً هجماتهم ضد أهداف في السعودية.
ثالثاً – في الشأن الإقليمي، استغلّت إيران المفاوضات ثم الاتفاق النووي نفسه لترسّخ قبضاتها الإقليمية، وهي تبدو حالياً كأنها فرغت من إنشاء منظومتها التخريبية وتجهيزها في البلدان الأربعة التي تعيش تحت رحمة ميليشياتها. إذ إنها تطبّق استراتيجية إدامة الأزمات ومنع الخطو نحو حلول سياسية لها، بعدما توصّلت الى اختراق الجيوش والأجهزة (سوريا والعراق) وشلّ الدولة ومؤسساتها (لبنان) أو طرد الحكومة الشرعية والاستيلاء على السلطة بالقوة (اليمن)… ففي كلٍّ من هذه البلدان تفرض إيران حالياً خيار الاعتراف بهيمنة ميليشياتها وقوننتها/ دسترتها أو إشعال حروب أهلية… وبطبيعة الحال فإن وضعاً كهذا يعني أن التفاوض مع إيران بهدف “تصحيح” سياساتها الإقليمية وإنهاء “أنشطتها الخبيثة” سيراوح طويلاً أمام احتمالات ثلاثة: استحالة التوافق وترك الصراعات مشتعلة، أو استحالة الاعتراف لإيران بنفوذها ممثّلة بميليشياتها، أو محاولة معالجة كلّ حالٍ على حدة “بدءاً من اليمن”، كما تقترح إدارة بايدن، على قاعدة “تقاسم النفوذ” كما سبق أن اقترحت إدارة أوباما.
في الأساس أدركت طهران أن ما يهمّ أميركا والدول الغربية أمران رئيسيان: أن لا تملك سلاحاً نووياً، وأن تفتح أبوابها للاستثمارات. لذلك فهي تشاغل تلك الدول بتطوير برنامجها النووي لتحمي برنامجها الصاروخي وسياساتها الإقليمية، وتشترط ألّا يكون “البزنس” مدخلاً لاختراقات سياسية تتعلّق بالانفتاح والإصلاح والحريات، ما يعني بالنسبة اليها تغيير النظام. وإذ تتسم علاقاتها بالصين وروسيا بالتفاهم والوئام وتتشارك معهما في تجاهل سجل حقوق الإنسان، فإنها تبقي علاقاتها بالدول الأوروبية مقنّنة في حدود صفقات مبرمة معها، وهذا ما يُستخلص من أداء بريطانيا وفرنسا وألمانيا غداة إبرام الاتفاق النووي.
يختلف الأمر مع أميركا التي تريد أيضاً حصّة في الصفقات، لكنها تسعى خصوصاً الى استمالة إيران في توجهها نحو آسيا ومواجهتها المتنامية مع النفوذ الصيني، كذلك في ضمان أمن إسرائيل وتفوّقها العسكري. هذان الهدفان لن يغيبا عن أي استراتيجية يعتمدها بايدن، ولن تستجيب طهران في ما يتعلّق بالصين، أما بالنسبة الى إسرائيل فالأمر يتوقف على المكاسب التي تُعرض عليها. كانت إدارتا أوباما وترامب قد أكدتا علناً عدم العمل على تغيير النظام الإيراني، لكن بالنظر الى الرواسب التاريخية لا يمكن تصوّر أي تطبيع كامل بين واشنطن وطهران بل علاقة مهادنة وفقاً للمساومات، فإيران تفضّل مرحلياً إبقاء العلاقة متأزّمة، وستسعى الى مقايضة تقييد برنامجها النووي وحتى الصاروخي مقابل عدم المسّ بمكاسبها الإقليمية، لكنها لن تهادن أميركا وإسرائيل إلا في حال رضوخهما واعترافهما بالنفوذ الإيراني الإقليمي، ولو مع بعض التعديل.
المصدر: النهار العربي