لم يكن قرار الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية الانسحاب من اتفاقية السماوات المفتوحة عاديا، فالانسحاب دليل قاطع على بلوغ العلاقة بين الطرفين مرحلة عالية من الشك وانعدام الثقة، فالاتفاقية التي وُقّعت عام 1992، ودخلت حيز التنفيذ عام 2002، وقعتها 34 دولة، وتضمنت السماح للدول الموقعة عليها بإرسال طائرات غير مسلحة إلى أجواء كل منها للاستطلاع ومراقبة جيوش بعضها بعضا، وجمع معلومات عن أنشطتها الميدانية، وما تشهده من تغيرات على تسليحها وانتشارها للتأكد من التزامها بالمعاهدات والاتفاقات العسكرية التقليدية والنووية. وهدفت إلى تعزيز الثقة والتفاهم المتبادل في ما بينها تكريسا للأمن والاستقرار الاستراتيجي على مستوى العالم.
جاء الانسحاب من الاتفاقية المذكورة بعد انسحاب الدولتين من معاهدتين نوويتين، كانتا قد كرّستا تقليصا كبيرا في عدد الرؤوس النووية لديهما، ووفرتا مناخا إيجابيا أدّى إلى وقفٍ لسباق التسلح النووي .. معاهدة الحدّ من الأسلحة النووية متوسطة المدى، ووقعت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في 8 ديسمبر/ كانون الأول 1987، وحظر بموجبها إنتاج أو نشر صواريخ نووية مداها بين 500 و5000 كيلومتر، الروسية منها تطاول معظم المدن الأوروبية. ومعاهدة ستارت الجديدة: معاهدة خفض الأسلحة الاستراتيجية الهجومية وتقليصها، وقّعت في إبريل/ نيسان عام 2010، ودخلت حيز التنفيذ يوم 5/2/2011، مدتها عشر سنوات قابلة للتمديد. وقضت بتقليص عدد الرؤوس النووية لدى كل من الولايات المتحدة وروسيا إلى 1550 رأسا، والصواريخ البالستية العابرة للقارّات، والصواريخ البالستية التي تطلق من الغواصات والقاذفات الثقيلة إلى 700 صاروخ، وعدد منصّات الإطلاق والقاذفات الثقيلة إلى 800 منصة، وذلك خلال سبع سنوات من دخول المعاهدة حيّز التنفيذ، وقد جاء الانسحاب من المعاهدتين على خلفية اتهاماتٍ متبادلةٍ بخرق الأولى وعدم الاتفاق على تمديد الثانية.
انسحبت الولايات المتحدة من المعاهدة الأولى يوم 14/2/2019، تلتها روسيا يوم 2/8/2019، بينما انتهت المعاهدة الثانية بعد فشل الاتفاق على تمديدها أو الاتفاق على بديل لها. وأثار هذا هواجس ومخاوف كبيرة في ضوء تعهد الكرملين بـ”إعادة التوازن” مع واشنطن، ودفع محللين إلى توقّع أن تبادر روسيا بعد الانسحاب إلى نشر صواريخ “جي إل سي أم” المتوسطة المدى وصواريخ “آر إس – 26″، لموازنة تفوق حلف شمال الأطلسي (الناتو) بالقوة التقليدية على المسرح الأوروبي، فروسيا تخشى، نظراً إلى وضع قواتها التقليدية المهلهل، من أن تُمنى بهزيمةٍ سريعةٍ في أي حربٍ تقليديةٍ معه، ما سيدفعها إلى التصعيد ونشر قنابل نووية، متدنية القوة في البدء، كجزء من استخدام السلاح النووي على نطاق محدود. وقد أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم 2/6/2020، مرسوماً حول أسس سياسة الدولة في مجال الردع النووي، وسّع فيه نطاق اللجوء للأسلحة النووية، محدّدا قائمة واسعة لأعمال “العدو المحتمل” التي قد تقتضي ردعاً نووياً، ومن بينها نشر مجموعاتٍ تضم وسائل نقل السلاح النووي بالقرب من الحدود البرية والبحرية لروسيا وحلفائها، ونشر وسائل للدفاع الجوي، وصواريخ مجنحة وبالستية متوسطة وقصيرة المدى، وأسلحة غير نووية عالية الدقة وفائقة السرعة، ونشر الدرع الصاروخية والنظم الضاربة في الفضاء، ونشر أسلحة نووية ووسائل نقلها في الدول غير النووية، وغيرها من الحالات، وحدّد حالتين أساسيتين لاستخدام السلاح النووي، وهما “الرد على استخدام سلاح نووي وغيره من أنواع أسلحة الدمار الشامل ضدها و/أو ضد حلفائها”، و”العدوان ضد روسيا باستخدام السلاح العادي في حال شكل تهديداً لوجود الدولة”.
بدأ السجال الأميركي الروسي وتبادل الاتهامات حول مدى توازن معاهدة الحدّ من الأسلحة النووية متوسطة المدى والالتزام بمقتضاها، كانت موسكو قد أبدت تبرّمها وانزعاجها منها، إذ تراها تميل لصالح الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وتغلّب كفتهما في القواعد الصاروخية البحرية والجوية، في وقتٍ تقيّد يدي موسكو في إنتاج ونشر صواريخ كروز، كما قادت، وفق موسكو، إلى تطويقها بعشرات الدول المجاورة، الصين تحديدا، التي تنشر صواريخ بالستية متوسطة المدى وعابرة للقارّات وصواريخ أرض – جو تهدد أراضيها، وكانت قد هددت عام 2007، عبر رئيسها فلاديمير بوتين ووزير دفاعه السابق سيرغي إيفانوف، بالانسحاب منها “ما لم يشمل حظر الصواريخ المتوسطة المدى دولاً أخرى”. وعملت، منذ العام 2008، على تقويضها بتطوير صاروخين، إس إس سي – 8 و9 أم 729، يتجاوزان قيود “المعاهدة” وضوابطها؛ ورفضت التفاوض حول انتهاكاتها لها مع إدارة أوباما في 2014، وأسست عام 2015 “القوات الجوية الفضائية”، وأرسلت في يوليو/ تموز 2015 أسطولا بحريا ضخما، شمل كاسحة جليد نووية، باتجاه القطب الشمالي، لتعزيز وجودها العسكري؛ والإعلان عن الهدف من ذلك: “فتح الطريق أمام البواخر والسفن التجارية والعسكرية الروسية، للوصول غير المقيد نحو المحيطيْن، الأطلسي والهادئ، ولتأمين وصول البلاد إلى موارد الطاقة في المنطقة القطبية الشمالية”؛ ناهيك عن استخدامه ممرّا تجاريا مع دول شمال أوروبا والأميركيتين، وطالبت بالسيطرة على مليون كيلومتر مربّع من أرض القطب الشمالي، وأعلنت عن إنتاجها الجديد من الأسلحة التقليدية والنووية والصواريخ المجنحة (صاروخً ثقيل جديد من طراز “سارمات” مداه مفتوح، وصاروخ كروز يعمل على الطاقة النووية، وصاروخ من طراز “الخنجر” الأسرع من الصوت، الذي يطير بسرعة عشرة أضعاف سرعة الصوت على مدى أكثر من ألفي كيلومتر، ويستطيع المناورة في جميع مراحل الرحلة، وصاروخ كروز من طراز “أفانغارد”، أسرع من الصوت يطير محاطا بشرنقة من البلازما). ودعت إلى نظام دولي جديد بدل النظام الحالي الذي تعتبره نظاما غربيا، الذي تجاوزته الظروف، وفق دعوة وزير الخارجية سيرغي لافروف، في مؤتمر الأمن في ميونخ يوم 18/2/2017. وهذا كله على أمل إقناع الولايات المتحدة بالدخول في مفاوضاتٍ حول تقييد نشر الدرع الصاروخية الأميركية في أوروبا وتمديد “ستارت” الجديدة من دون شروط، حيث اشترطت واشنطن للموافقة على التمديد انضمام الصين إليها.
لم تكتف الولايات المتحدة بعدم الاستجابة للمناورة الروسية، بل وصعّدت موقفها في استراتيجية الأمن القومي الأميركي 2015 باعتبار روسيا، مع الصين، عدوة للولايات المتحدة، وفي رفع مستوى المخاطر بالإعلان عن استراتيجية نووية جديدة عام 2018، تهدف إلى تطوير رؤوسٍ نووية ذات طاقة منخفضة، وبينت في الوثيقة أن الاستراتيجية والقدرات النووية الراهنة غير كافية لردع روسيا عن القيام بأمرين: شن ضربات نووية محدودة، للضغط على حلف شمال الأطلسي في إطار نزاع تقليدي يتفاقم، واستخدام الأسلحة النووية المنخفضة القوة بشكل أوسع، لتحقيق انتصارٍ على القوات التقليدية للحلف، إذا فشلت التهديدات.
ينطوي الموقف المتوتر بين الدولتين على مخاطر كبيرة، لعل أولها انخراطهما في سباق تسلح محموم، بما في ذلك السعي إلى عسكرة الفضاء، وثانيها إطلاق سباق تسلح نووي على مستوى العالم، حيث لا تزال دول نووية تنظر بعدم رضا إلى امتلاك الولايات المتحدة وروسيا 90% من القدرة النووية، لدى واشنطن 5800 رأس نووي ولدى موسكو 6375 رأساً ولدى بكين 320 ولدى باريس 290 ولدى لندن 2015، بحسب معهد “سيبري” السويدي، ودول أخرى تسعى إلى دخول النادي النووي لتأمين رادع وازن، وثالثها ارتماء روسيا في حضن الصين، في ضوء تمسّكها بعدم التراجع أمام الولايات المتحدة وضعف قدرتها المالية للصرف على برامج تسليح باهظة التكاليف. من دون أن نغفل احتمال الانزلاق نحو مواجهةٍ نوويةٍ لما للأسلحة النووية المنخفضة القوة من إغراء الاستخدام لتحقيق نصر سريع وشامل في أي مواجهة.
المصدر: العربي الجديد