يواجه كل من يهمه أمر العدالة الانتقالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مهمةً صعبة للغاية. كيف يمكن التعامل مع الماضي بينما يراوح الحاضر في حالة اضطراب شديد؟ وكيف يمكن التعامل مع حروب الماضي وانتهاكاته بينما تستعر حروب وتُرتكب انتهاكات جديدة، وأكثر خطورة، اليوم؟ لطالما عرف الممارسون أن العدالة الانتقالية مسارٌ بطيء ومتعرج، يتطلب الصبر والتخطيط طويل الأمد. والانتكاسات متوقعة في خضم هذه العملية، ولكن يبقى في النهاية ذلك الوعد أو الافتراض بأنه “إذا ثابرت، فإنك ستصل إلى نتائج في نهاية المطاف”.
ولكن، هل ما يزال هذا الافتراض سارياً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟ هل تُحرِز جهود العدالة الانتقالية القائمة نجاحاً في وضع الأسس للوصول إلى مستقبل أفضل، أم تمحو أثرها جولاتٌ جديدة من العنف والقمع؟ المسألة تصورية وواقعية على حد سواء. فمن ناحية، يبرز السؤال حول ما إذا كان باستطاعة مجتمع ما البدء في معالجة صدمات الماضي بينما يتعامل في الوقت عينه مع صدمات جديدة، والتي غالباً ما تُسببها جهات فاعلة جديدة. ومن ناحية أخرى، يبرز السؤال حول نوع مسارات العدالة الانتقالية ومؤسساتها التي يمكنها أن تتعامل مع الماضي، مع قدرتها أيضاً على التكيف مع حاضر دائم التغير.
التحديات هائلة، وما من إجابات سهلة. وفي ما يلي، أسلط الضوء على الحاجة إلى المزيد من البحوث حول مسارات العدالة الانتقالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع تركيز على أعوام الاضطراب الأخيرة. وهنا يبرز سؤالان أساسيان: الأول هو كيف نوفق بين مطالبات الماضي والحاضر؟، والثاني هو كيف نستوعب مصادر الشرعية دائمة التغير، نظراً إلى الفراغ المتزايد في هيكليات الدولة في المنطقة؟.
عندما يتنافس الماضي والحاضر على جذب الانتباه
تهدف العدالة الانتقالية إلى ربط الحاضر بماضٍ مضطرب، والسماح للمجتمعات بالشفاء عبر معالجة صدمات الماضي، كما هو الأمر في العلاجات النفسية الجيدة. ولكن، تجري أكثر جهود العدالة الانتقالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عملياً في بلدان لم يحدث فيها انتقال بعد، أو حيث الصراع ما يزال جارياً. ويعني ذلك أنه ينبغي على جهود العدالة الانتقالية معالجة الماضي والصدمات الجارية أيضاً.
وتُبين مقاربة العراق الفاشلة للعدالة الانتقالية بعد العام 2003 مخاطر التعامل مع الماضي من دون معالجة الحاضر. فالسياسات التي اعتُمدت لمعالجة الانتهاكات المُرتكبة خلال فترة حكم صدام حسين القاسية لم تشفِ، بقدر ما أججت، جولات جديدة من العنف. ومن الطريقة التي تم فيها العمل لتحقيق العدالة إلى طريقة توزيع التعويضات، فاقمت المقاربة العراقية الانقسامات وأسهمت عن غير قصد في نشأة الميليشيات والمجموعات المتطرفة. وسيحتاج أي مسار عدالة انتقالية اليوم إلى الأخذ بعين الاعتبار الأذى الذي ارتكبه جناة عدة، من بينهم صدام حسين ونظامه، والاحتلال الأميركي، والميليشيات الشيعية، وتنظيم “داعش”. ولكن، على هذا المسار أن يقوم بذلك في سياق دولة ما بعد العام 2003 التي تعاني من أزمة حوكمة خطيرة ومطالبات متنافسة بالعدالة.
ويظهر تحدي معالجة المطالبات المتنافسة بالعدالة أيضاً في سورية؛ حيث تتعقد المسالة أكثر بسبب غياب العملية الانتقالية هناك. وقد اعتمد المجتمع الدولي سياسات عدة لدعم المجموعات التي تعمل بالنيابة عن المحتجزين وعن الذين جعلهم النظام من المفقودين. وبعد ظهور “داعش”، انتقل الدعم والانتباه الدوليين إلى انتهاكات التنظيم، ولم يُخصص أي جهد أو اهتمام لوضع مقاربة متكاملة يمكنها معالجة حاجات الضحايا، بغض النظر عمن ارتكب الجرائم بحقهم. فكان الوضع وكأن جداراً صينياً يفصل إطار عمل العدالة الانتقالية المُستخدم لانتهاكات النظام عن إطار عمل لمكافحة الإرهاب مخصص لانتهاكات “داعش”. بالتالي، لن يجري أي سرد للحقيقة، ولن يحصل ضحايا “داعش” على أي أجوبة، علماً أن قوات سورية الديمقراطية المدعومة من الغرب تحتجز الآلاف من مشتبهي “داعش” الذين يمكنهم منح الإجابات للعائلات.
ويكمن تحد آخر لمسارات العدالة الانتقالية أو مؤسساتها في فترات الاضطراب في بطئها وعدم قدرتها (هيكلياً أو بيروقراطياً) على الاستجابة بسرعة للأحداث الجارية، وغالباً ما يجعلها ذلك غير فعالة. فقد تمتعت المحكمة الجنائية الدولية بتفويض للتحقيق في الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب في ليبيا منذ العام 2011، لكنها عجزت عن منع الانتهاكات الجارية أو تحويل النقاش نحو المساءلة في البلاد. وحدث أمر مماثل مع المحكمة الخاصة بلبنان بقيادة الأمم المتحدة، التي كانت غايتها تحقيق العدالة وإنهاء الإفلات من العقاب عن الاغتيالات السياسية في لبنان. فكانت المحكمة بطيئة جداً وتغير الوضع في لبنان جداً لدرجة أن اهتمام الشعب اللبناني بالمحكمة أصبح شبه معدوم. وحتى بعدما أصدرت المحكمة الخاصة بلبنان حكماً بشأن اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في 18 آب (أغسطس) 2020، لم يكن لها أثر يُذكر على المساءلة. وبعد أيام قليلة من صدور الحكم غيابياً، كتبت ابنة سمير قصير، وهو صحفي لبناني معروف تم اغتياله ضمن موجة من الهجمات المستهدفة في العام 2005، مقالاً عبرت فيه عن خيبة أملها من المحكمة الخاصة بلبنان وتساءلت عما إذا كانت هذه هي العدالة.
شرعية متغيرة
تُعد الشرعية تحدياً آخر لآليات العدالة الانتقالية في فترات الاضطراب. ففي معظم مقاربات العدالة الانتقالية، تترتب على الدولة المسؤولية الأساسية في ضمان التعويضات لضحايا الانتهاكات. ولكن، ماذا لو كانت الدولة تندثر أو لم تكن لديها شرعية؟ أو ماذا لو كانت قيادتها الراهنة سلطوية وقمعية أكثر من التي سبقتها؟ توضح الأمثلة الحديثة التالية من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هذه التحديات.
من الذي يمتلك السلطة لنبش المقابر الجماعية في مناطق تشهد صراعات مثل سورية أو ليبيا؟ من الأفضل عادة ترك جهود كهذه لعملية بقيادة الدولة. ولكن، ماذا لو كان من غير المرجح أن تبذل السلطات الوطنية جهداً من هذا القبيل؟ هل ينبغي على ممارسي العدالة الانتقالية الانخراط مع جهات فاعلة من غير الدول؟ وإذا كان الأمر كذلك، فوفق أي شروط؟ مثلاً، هل ينبغي أن يجري انخراط دولي مع السلطات المحلية بقيادة كردية في شمال شرق سورية التي استعادت الأراضي من “داعش” لكي تتمكن من المباشرة في نبش المقابر الجماعية في المناطق الخاضعة لسيطرتها والخوض في مسار من البحث عن الحقيقة وتقديم التعويضات؟ وإذا تم مثل هذا الانخراط الدولي، هل في وسعه المساهمة في جهد وطني مستقبلي، في حال أُطلق هذا الجهد يوماً؟
في حالات أخرى، تتمحور المسألة حول الشرعية. فكل مسارات المساءلة أو العدالة الانتقالية للانتهاكات المُرتكبة في عهد الرئيس المصري حسني مبارك توقفت في مصر بعد أن استلم النظام الجديد مقاليد الحكم. ولكن، ماذا كانت ستكون شرعية جهد كهذا، نظراً إلى أن سجل النظام الحالي لا يختلف عن سلفه بطرق متعددة؟ في هذه الحالة، ونظراً إلى المساحة السياسية والمدنية المتضائلة في مصر، هل ينبغي على ممارسي العدالة الانتقالية البدء بالانخراط بشكل استراتيجي أكثر مع جهود الشتات لسرد الحقائق وتخليد الذكرى؟
نحو أجندة بحثية جديدة
ما من إجابات سهلة على هذه الأسئلة. لكن من الواضح أن مسارات العدالة الانتقالية القائمة ببساطة لم تعد كافية. ولذلك، من الضروري البحث في مسارات أسرع يمكنها الاستفادة من الفرص السانحة الوجيزة للوصول إلى المساءلة، حتى لو لم تكن شاملة. ويمكن أن يعني ذلك فتح الأرشيف حتى لو كان التاريخ ما يزال قيد الكتابة، أو اعتماد آليات لسرد الحقيقة، والتي يمكنها الدمج بين الفظائع السابقة والجارية. ويمكن أن يعني ذلك أيضاً أنه ينبغي على ممارسي العدالة الانتقالية أن يصبحوا مرتاحين أكثر مع الانخراط في مبادرات بقيادة مجموعات جديدة من الشتات وكيانات من غير الدول. وبالإجمال، ينبغي إجراء معاينة نقدية لمقاربات العدالة الانتقالية الراهنة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إذا كانت هذه المسارات ستساعد على معالجة الإساءات والانتهاكات الكثيرة التي ارتُكبت في الماضي وما تزال تُرتكب اليوم.
*مدير تنفيذي- مبادرة الإصلاح العربي
المصدر: (معهد بروكينغز) /الغد الأردنية