
بعد تردد حسمت الأمر؛ ليكن احتفالاً شخصياً بذكرى سقوط الأسد، ولا ضير في الخروج مرة عن مقتضيات مقالات الرأي. أذكّر نفسي بأنني بدأت الكتابة في السياسة من المدخل الشخصي، حدث ذلك قبل عشرين عاماً، إذ نشرت مقالاً في ملحق نوافذ/جريدة المستقبل، بعنوان: بعد أن انقضى نصف العمر الذي لم أعشه! كان صريحاً في النص أن المقصود هو عمري، وأعمار السوريين غير المُعاشة تحت حكم عائلة الأسد. وكان ذلك المقال فاتحة لمقالات، شبه منتظمة في الملحق نفسه لسنوات، عملت فيها على قراءة جذرية لمؤسسة سلطة الأسد.
لكنني لا أغامر في التأكيد على أن الأمر بدأ شخصياً أيضاً، فقد كنت أسوة بالملايين أنتظر من “البيولوجيا” أن تتولى التغيير، فالأسد الأب كان مريضاً، وكان من المحتمل وقتَ وفاته أن لا يتم التوريث كما أعدّ له. لكن التوريث حدث، ولم أكن للحظة مخدوعاً بشعارات التوريث، وهذا لا يعني إدانة سوريين أقنعوا أنفسهم بأن الوريث مختلف عن أبيه نحو الأفضل. شعرت بالتوريث كأنه إهانة شخصية لي، تبدأ من أن لا تشهد حياتي سوى حكم عائلة الأسد.
شاركتُ، نقاشاً أو إعداداً، في بعض المنتديات التي افتُتحت في بداية عهد الوريث، وشهدتُ إغلاقها مع الإجهاز على ما سُمّي “ربيع دمشق”. ورأيت أيضاً أول تمثال للأسد الأب وقد تعرّض للإهانة والتشويه، كان ذلك في مدينة القامشلي التي ذهبت إليها في منتصف آذار 2004 رفقة العديد من النشطاء تضامناً مع الانتفاضة الكردية. رتّب لنا الصديق مشعل التمو، الذي لم يكن قد أصبح شهيداً، العديدَ من اللقاءات مع فعاليات في القامشلي والحسكة، من بينها أذكر لقاءً مع مثقفين بادر فيه واحد منهم إلى القول مستنكراً: لماذا أتيتم؟! ثم أردف بتأثّر: أكان يجب أن يصير دمنا في الأرض كي نراكم؟
كان اغتيال الرئيس رفيق الحريري في لبنان حدثاً فاصلاً في سوريا أيضاً، فماكينة الاغتيال ذاتها تشددت أكثر إزاء حرية الرأي في سوريا. واستطاعت الماكينة أن تستقطب، طوعاً لا كرهاً، أقلاماً تواظب على شتم القيادات اللبنانية المناوئة لوصاية الأسد على لبنان. وهكذا صادف أمثالي اللوم والغضب من هؤلاء، بما لا يقل أحياناً عن تحذيرات جهاز مخابرات هنا وآخر هناك. لم تكن مواجهة ذلك نوعاً من الشجاعة، أنحاز دائماً إلى وصفها بالعناد.
في الأصل، جئت من كتابة الأدب، ومن فضائل الكتابة في الأدب أنها تعلّمنا عدم السؤال عن الجدوى المباشرة كما يفعل السياسيون. في الواقع ثمة وجهان يبدوان متناقضين للوهلة الأولى؛ أولهما الإيمان العميق بجدوى الكتابة، وثانيهما عدم انتظار هذه الجدوى. بعد عشر سنوات من الكتابة في السياسة سأُسأل، في لقاء مع الجمهور ضمن مهرجان سيت في فرنسا، عن الجمع بين الكتابة الأدبية والسياسية؟ فأجيب إن ما يبدو تناقضاً في الظاهر يجد حلّه عند الذين يعتقدون أن الكتابة هي فعل حرية. أضيف الآن بعد عشرين عاماً أن هذا النوع من الكتابة يتطلّب إحساساً شخصياً بالكرامة، لا يلبث أن يتحول إلى حساسية عامة إزاء ما يمسّ كرامة الإنسان.
ما سبق ليس امتيازاً شخصياً، فعلى الأرجح تعلّمتُه من هنا وهناك، وتعلّمت معه شيئاً عن كرَم الكتابة. تعلّمت معنى التغيير والاستمرار معاً، وفي الوقت نفسه صرت أكثر انتباهاً إلى كرم أجيال سبقت، تحديداً هؤلاء الذين آمنوا بالحرية، وتصدّوا لحكم الأسد بين منتصف السبعينات ومنتصف الثمانينات. أتحدث عن ألوف النساء والرجال الذين لم ينتظروا تكريماً من أحد على قناعاتهم، ولم يُكتب التاريخ الذي ينصفهم، لأن الذين يكتبون التاريخ حتى الآن مفتونون بمظاهر القوة والنجاح السريعين.
بخلاف ما يراه عبيد القوة، أفكّر في الذكرى الأولى لسقوط الأسد في أننا نجحنا، نحن الذين لا نملك سوى كلمتنا، والتي هي للمفارقة ما يخشاه “الأقوياء” في كل زمان ومكان. لقد اعتدنا خلال 14 عاماً على عبيد القوة الذين ما أن ننتقد مظهراً من مظاهر العسكرة حتى ينبري أحدهم بمطالبتنا بتشكيل فصيل عسكري والقتال بدلاً مما يرون أنها ثرثرة لا طائل منها، هم أنفسهم الذين خلال السنة الأخيرة لم يتوانوا عن هجاء أصحاب الرأي بذريعة أن النصر أتى به العسكر لا أصحاب الكلمة، وأن “مَن يحرر يقرر”. يتناسى هؤلاء، أو لعلهم لا يعرفون أصلاً، أن الثورة بدأت بالكلمة، وبحناجر المتظاهرين التي أصابت الأسد بالرعب.
في أحسن الروايات عن “التحرير”، يظهر أن قوات الأسد لم تحارب عشية السقوط، لأنه سلطته كانت منهارة. ولا يلزم الكثير من النباهة، لكن يلزم القليل من النزاهة، من أجل الإقرار بأن انهيار الأسد كان نتاج عملية قضم مديدة، ساهم فيها الكثير من السوريين، ممّن حملوا السلاح وممن لم يحملوه. أما القليل من الوفاء والإنصاف تجاه الثورة أولاً فيقتضي النظر إلى إسقاط الأسد كفرحة شخصية لمَن يشاء من السوريين، وكإنجاز يمثّلهم جميعاً على العموم، فلا يستثني سوى الذين يستثنون أنفسهم وأولئك المتورّطين في دماء السوريين.
ليست الكتابة شأناً مستقلاً عن الواقع، أو متعالية عليه. على العكس، كانت الكتابة لدى السوريين مهمومة بمعظمها بقضايا الحرية، في أوقات لم يكن فيها حراك سياسي بسبب منع السياسة. أو كانت الكلمة المهرَّبة هي الوسيلة الوحيدة للأحزاب، كما حدث في زمن العمل السري. لقد واظب حكم الأسد على معاداة الكلمة، الأمر الذي كان فاقعاً مع انطلاقة الثورة. واليوم نحتاج إلى سلوك الطريق المعاكس، نحتاج إلى إعادة الاعتبار للكلمة، من قبَل العموم لا من قبل السلطة.
لا يمكن في الواقع الاحتكام إلى السياسة، وهو ما نحتاجه، من دون احترام الكلمة التي هي وسيلة الخطاب السياسي. إن الإعلاء من البوط، أو السلاح لا فرق، بصرف النظر عن صاحب السلاح، هو اعتداء على الكلمة؛ على كلمة السوريين عموماً، لا الكتّاب منهم على نحو خاص. احترام ملايين السوريين الذي عبّروا بالكلمة عن رغبتهم في التغيير يقتضي وضع الكلمة في مكانها المناسب، وإنزال البوط إلى مكانه المناسب أيضاً.
من حقنا، كأصحاب كلمة، الاحتفال بسقوط الأسد بوصفنا مساهمين أساسيين فيه، ولسنا ضيوفاً على أحد. والاحتفال مبعثه أن كلمة ملايين المتظاهرين عام 2011 هي التي تسببت بإسقاط الأسد، وأن السلاح (بصرف النظر عن الموقف منه) هو نتاج لتلك الثورة العارمة. ومبعثه أيضاً التأكيد على الجدوى، فالكلمة الحرة تسببت أخيراً بإسقاط الأسد، ويخطئ من يستهين بها، أو يتوهّم أنه سينتصر في النهاية على سلالتها المارقة.
المصدر: المدن


