
تبدو التجربة السورية في مرحلتها الجديدة واحدة من أكثر التجارب تعقيداً في مسار بناء الدول، إذ يجد السوريون أنفسهم اليوم أمام واقع لم يألفوه منذ عقود، واقع يبدأ فيه القانون باستعادة حضوره بعد سنوات طويلة عاش فيها المجتمع على هامش الدولة أو خارجها تماماً، ولهذا فإنَّ ما يظهر من رفض أو ارتباك في تطبيق المواطنين للقانون ليس بالضرورة اعتراضاً على القانون ذاته، بقدر ما هو تعبير عن فجوة هائلة بين ظروف قيام دولة طبيعية تتدرج في تنظيم حياة مواطنيها، وبين ولادة دولة فوق أرض منهارة اقتصادياً واجتماعياً ومعيشياً، دولة تحاول أن تبدأ من نقطة الصفر، بينما لا يزال المجتمع يلتقط أنفاسه بعد سنوات قاسية من التشظِّي والاضطراب.
في ظلِّ هذا المشهد، يصبح من الطبيعي أن يشعر كثير من السوريين بأنَّ تطبيق القوانين التي غابت طويلًا يأتي اليوم كعبء إضافي بدل أن يكون خطوة إيجابية، فالبائع الذي يعتمد على بسطة بسيطة لبيع بضاعته لم يكن يوماً يعتبر نفسه مخالفاً؛ لأنَّه، وبكلِّ بساطة، يؤدي دوراً اقتصادياً اضطرارياً فرضته ظروف العيش الصعبة، ولذلك حين تأتي القوانين الجديدة لإزالة هذه البسطات ضمن خطة تنظيمية شاملة، يختبر أصحابها شعوراً مضطرباً بين إدراكهم لضرورة تنظيم دولتهم، وبين خوفهم من ضياع مورد رزقهم الوحيد، في وقت لا يملكون فيه القدرة على تأسيس مشاريع بديلة، لأسباب كثيرة أنتجتها الحرب.
ومن زاوية الدولة الناشئة، يبدو المشهد مختلفاً تماماً، فبناء مؤسسات فاعلة، وإعادة تنظيم الأسواق، وفرض معايير السلامة، وتحرير الأملاك العامة من الاستخدام العشوائي، هي خطوات أولى في مسار طويل نحو بناء دولة تحاول أن تثبت وجودها، وتنهي حالة الفوضى التي أتعبت الجميع، وهي ترى في تطبيق القانون ضرورة ملحَّة؛ لأنَّ أيَّ تساهل قد يعيد إنتاج الفوضى ذاتها التي تحاول التخلُّص منها، ولذلك فإنَّ الجدية في فرض النظام ليست نابعة من رغبة في التضييق على المواطنين، بل من خشية أن ينهار البناء مرَّة أخرى قبل أن يكتمل.
المشكلة لا تكمن في نوايا الدولة ولا في حاجات الناس، فمن المعروف أنَّ أيَّ دولة حديثة حين تنشأ في ظروف طبيعية تسبقها بنية اقتصادية مستقرة، وفرص عمل، وشبكات أمان اجتماعي تمكِّن المواطن من الامتثال للقوانين من دون أن يخسر أساسيات حياته. أمَّا في سوريا فالأمر مختلف تماماً، فقد جاء القانون قبل وجود البدائل، وأتى التنظيم قبل الاستقرار، وأعلنت المحاسبة قبل التعافي الاقتصادي، وهذه المعادلة تخلق شعوراً بالارتباك؛ لأنَّ المواطن يرى أنَّ التغيير حدث بسرعة تفوق قدرته على التكيف معه أو استيعابه. ويمكن ملاحظة هذا التوتر في تفاصيل يومية أخرى، كارتفاع فواتير الكهرباء والمياه والخدمات التي اعتاد كثيرون على دفع مبالغ رمزية مقابل ما كان يقدَّم لهم من خدمات بسيطة. فحين يجد المواطن نفسه مطالباً بالالتزام بمعايير استهلاك صارمة في وقت لا يزال دخله غير مستقر، يتولد عنده شعور بالضغط؛ لأنَّ الظروف المعيشية لا تزال غير مهيأة لتطبيق هذه الأنظمة بالشكل المثالي الذي تطمح إليه.
وفي المقابل ترى الدولة أنَّ ضبط الخدمات، وإعادة هيكلة مواردها، مسألة حيوية لبقائها، خاصة وأنَّها تحاول إصلاح قطاع متهالك لا يمكن أن يستمر بالآليات القديمة، ولذلك فهي تتخذ إجراءات سريعة خشية أن يؤدِّي التأخير إلى ترسيخ عادات يصعب تغييرها لاحقاً، لكنَّ هذا الإيقاع السريع أصبح صادماً لمجتمع منهك يحتاج إلى مرحلة انتقالية أوسع، مرحلة تسمح له بإعادة ترتيب اقتصاده الصغير قبل أن يمتثل لاقتصاد الدولة الكبير. وهكذا يتشكَّل ما يمكن تسميته بصدمة التحوُّل؛ صدمة لا نلوم فيها الناس ولا نلوم فيها الدولة؛ لأنَّها نتيجة لبداية علاقة غير متوازنة بين الحاجة لفرض النظام وبين الواقع الذي لا يزال هشًّاً وغير قابل لامتصاص هذا النظام بسهولة. فالمواطن يشعر أنَّ القانون يطلب منه الكثير بينما يمنحه القليل، وتشعر الدولة أنَّها مطالبة بتقديم الكثير بينما تملك القليل، فينشأ بين الطرفين سوء فهم يحتاج إلى وقت وإرادة لحلِّه.
من المهم، في هذه المرحلة، أن تدرك المؤسسات الوليدة أنَّ بناء القانون يحتاج إلى خطاب واضح يشرح للناس أسباب الإجراءات، ويقدِّم لهم بدائل ولو مرحلية، ويضمن أن يشعر المواطن بأنَّ الدولة ترافقه في رحلته نحو الامتثال، من دون أن تدفعه دفعاً إلى التغيير؛ لأنَّ المجتمع الذي عاش طويلاً في مناطق رمادية يحتاج إلى جسور ثقة قبل أن ينتقل إلى حياة أكثر تنظيمًا. كما أنَّ على المواطن، من جهته، أن يدرك أنَّ العودة إلى الفوضى ليست خياراً، وأنَّ تنظيم الحياة العامة ضرورة لا يمكن تأجيلها إلى ما لا نهاية، لكن هذه العملية ستكون أكثر توازناً حين يشعر بأنَّها تنفَّذ بالشراكة معه، وأنَّ القانون الذي يطبَّق اليوم يهدف إلى أن يكون ضمانة لمستقبل مستقر.
إنَّ ما يبدو من صدمة لدى السوريين هو جزء طبيعي من مخاض إعادة تأسيس الدولة، فالحاجة اليوم ملحَّة إلى ترميم المجتمع وتنظيمه، ولذلك فإنَّ النجاح في المرحلة المقبلة يتطلَّب وعياً مشتركاً بأنَّ الطرفين يسعيان، بطرق مختلفة، إلى هدف واحد وهو بناء حياة أكثر استقراراً وإنصافاً، وأنَّ الفجوة بين القانون والمواطنين هي تحدٍّ يمكن تجاوزه حين يكون الإصلاح متدرجاً، والبدائل متاحة، والحوار قائماً، وبذلك يصبح التحوُّل أقل حدَّة، وتغدو خطوات البناء أقرب إلى الواقع الذي يستطيع الجميع السير فيه بثقة أكبر.
المصدر: تلفزيون سوريا


