نحو هيئة شعبية عربية لإعمار غزّة… مشروع لكسر حصار الابتزاز

حسام قاسم

تعرّض سكان قطاع غزّة على مدار العامَين الماضيَين إلى أسوأ حرب إبادة وتجويع في القرن الحادي والعشرين. ولم تكن تلك الفاجعة لتحدُث لو أدّى العرب واجبَهم المنتظَر في نصرة إخوانهم، ولا سيّما أن الحرب تحدُث نيابةً عنهم؛ حفاظاً على مقدّساتهم من ناحية، وإشغالاً للعدو المشترك عن التوجّه المباشر إلى دول أخرى من دولهم إذا فرغ من أهل فلسطين، من ناحية ثانية.
ولا يمكن أن يجد المتأمّل في هذا المشهد للعرب (على مستوى آحاد الناس) شيئاً من العذر إلّا بوجود شبهة اضطرار وقع فيها كثيرون من العرب والمسلمين الذين لم يستطيعوا حيلةً ولم يجدوا سبيلاً؛ ولذا حدث ما حدث، وعيونهم تفيض من الدمع حزناً ألّا يستطيعوا نصرة إخوانهم، وهم يعلمون أنّهم لا يحلّ لهم أن يسلّموهم أو يخذلوهم، وأن ذلك يضرّ بإيمانهم بقدر ما يضرّ بأمنهم.
وعلى الرغم من أن فكرة الضرورة قد تكون موضع خلاف، فلا خلاف على أن الضرورة تُقدَّر بقدرها، وأن عدم التمكّن من العون الكامل وقت الحرب لا يعني عدم قيام كلٍّ منّا بأقصى ما يستطيع بعد أن خفّت شدّتها، سيّما أن المواساة الآن أكثر أهميةً لأسباب كثيرة، منها أن الإحساس بالفواجع والمواجع سيزيد بعد عودة المرابطين النازحين إلى الديار المهدّمة، وقد خلت من الأحبّة، ومنها أن فورة الصبر التي تصاحب الأزمات تتراجع، إذا استمرّت هذه المواجع، ومنها أن الخوف من ضياع التضحيات الكبرى مُحبِط، ولا سيّما أن خطة العدو الحقيقية التي يمارسها منذ سنوات هي جعل الحياة في غزّة مستحيلةً، وعدم التدخّل السريع والحاسم لدعم أهل الرباط يجعل هذا الهدف ممكناً.
عدم التدخّل لدعم أهل غزّة يجعل هدف الاحتلال، في جعل الحياة هناك مستحيلةً، ممكناً
ولا يشكّ كاتب هذه السطور في أنّ قطاعاً كبيراً من العرب والمسلمين صادقٌ في رغبته في بذل أقصى ما يستطيع لعلاج ما سبق من تقصير، وتفادي ما قد يحدُث إذا نجح العدو في الاستمرار في جعل الحياة في غزّة مستحيلة. ولهذه الثقة في رغبة الأمّة في علاج تقصيرها أسبابٌ كثيرة أيضاً، منها أن غياب مثل هذه الرغبة يعني انعداماً تامّاً للرشد، وتضحيةً بالأمن القومي للجميع وتفريطاً في الثوابت والمقدّسات، كما يعني قبل ذلك كلّه وجود أزمة إيمانية كبرى؛ فأهل غزّة هم أهل الرباط، بل هم خيرة المرابطين، وعونهم فريضة، بل إنه واجب الوقت الذي لا يسبقه حالياً شيء من الفروض والواجبات. وأحسب أن مثل هذه الأزمة الإيمانية العامة ليست قائمةً، ولن تكون قائمةً إن شاء الله. ومن ثم، لدى قطاعاتٍ كبيرةٍ رغبة في القيام بما يلزمهم القيام به، و”التوبة” من تقصيرهم الذي ربّما كانوا قد اضطرّوا إليه.
ولا يشكّ الراغب في تحقيق نتائج سريعةٍ ملموسةٍ في أن ترك إعمار غزّة للحكومات كلياً، حيث تسيطر الحسابات السياسية والمخاوف من أعوان العدو، يمثّل مجازفةً كبرى، وتعريضاً للصامدين للابتزاز، ما قد يضيّع ثمار التضحيات الجسيمة التي قدّموها. ولذلك، على الشعوب أن تأخذ زمام المبادرة. وهذا الأخذ بزمام المبادرة أمرٌ سهل إذا تمكّنّا من تنظيم الجهود الفردية للمجموعات التي سيدفعها إيمانها وإنسانيّتها للتحرّك؛ فنسبة أهل غزّة إلى عموم الأمّة واحد في الألف تقريباً، وليس منطقياً أن يعجز الألف عن القيام بواحد، ويفشل الملياران في تثبيت مليونَي مرابطٍ يدافعون بدمائهم عن مقدّساتنا، ويحمون كثيراً من دولنا من أن يتفرّغ لها العدو. ولذلك، يقترح هذا المقال فكرةً بسيطة يمكن وصفها بأنها واقعية سهلة التنفيذ، وبأن من شأنها أن تقدّم مساعدةً حاسمةً في تحقيق الإعمار من دون مَنٍ ولا أذى، ولا ابتزاز يجبرهم على التنازل عن ثابتهم.
ومؤدّى هذه الفكرة إنشاء هيئة شعبية عربية إسلامية عالمية مستقلة ذات كفاءةٍ ومصداقيةٍ تقوم بثلاثة أمور؛ تقديم دعمٍ مناسبٍ ومستقرٍّ وعاجلٍ للفئات الأولى بالرعاية؛ وإيجاد فرص عمل كثيرة سريعاً لسكّان القطاع؛ وإنشاء 20 تجمّعاً سكنياً كبيراً على نحوٍ عاجل على أراضٍ فضاء لا تحتاج إلى إزالة الركام من عليها لتكون سكناً مناسباً لكثير من الأسر التي فقدت سكنها، ودوراً لرعاية اليتامى وكبار السنّ الذين فقدوا من يعولهم أو من يقوم بخدمتهم.
وفي ما يلي بيانٌ بوصف المستهدف، وتحديد الطريقة العملية للتمويل وكيفية التنفيذ وإجراءاته.
وصف المستهدف
يستهدف المشروع إنشاء 20 تجمّعاً سكنياً في أراضٍ فضاء يحدّدها المسؤولون في غزّة، تكون قريبةً من المدن المدمّرة لإقامة الشجاعية الجديدة، وجباليا الجديدة، وتلّ الهوى الجديدة… يحتوي كلُّ تجمّعٍ منها على 250 عمارةً سكنية، كلٌّ منها سبعة طوابق، وكل طابقٍ أربع شقق، ليكون مجموع شقق كل تجمّع سبعة آلاف شقّة، ومجموع شقق التجمّعات العشرين مئةً وأربعين ألف شقّةٍ ذات مساحة كبيرة وتصميمٍ متميّز وتشطيبٍ مناسب.
تُخصَّص مئة ألف شقّةٍ سكناً للأسر المنكوبة وفق معايير واضحة، وعشرون ألفاً تمثّل شقق الدور الأرضي تُخصَّص لدور لرعاية اليتامى بنظام الأمهات البديلات، وكذلك لرعاية كبار السن وتقديم الخدمات الاجتماعية الأخرى. أمّا العشرون ألف شقّةٍ التي تمثّل الدور الأخير في كل عمارة، فتُمنح لشركات المقاولات المنفِّذة لبيعها للقادرين من أهل القطاع جزءاً من تمويل المشروع، وستأتي التفاصيل التي تحدّد بقية عناصر التمويل.
ترك إعمار غزّة للحكومات، حيث تسيطر الحسابات السياسية، مجازفة كبرى وتعريضٌ للصامدين للابتزاز
ومن المطلوب أن يحتوي كلُّ تجمّعٍ على سبعة مساجد كبيرة، وخمس مدارس للتعليم قبل الجامعي، يُسلَّم بعضها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، كما يحتوي على عددٍ مناسبٍ من المتاجر وأماكن الترفيه، بحيث يكون عائد إيجار المتاجر وقفاً لصالح دور الرعاية بوصفه جزءاً من تمويلها. وتتبع دور الرعاية مؤسّسات خاصة توظّف أمهاتٍ بديلات ترعى كلُّ واحدة منهنّ أربعةَ يتامى في مقابل راتبٍ شهريٍّ مناسب، إضافةً إلى كل تكاليف المعيشة. والأمر كذلك مع دور رعاية كبار السنّ، وبهذا تسهم هذه الهيئة كثيراً في زيادة نسبة التوظيف في القطاع، ولا سيّما بين النساء حيث تقلّ فرص العمل لهنّ، وكما يُفضَّل اختيار أرضٍ فضاء للبدء في التنفيذ سريعاً، فإنه يُفضَّل اختيار أماكن مناسبة لتعتمد أكثر في توفير الماء والكهرباء على الشراء من مصر، وليس الاعتماد على داخل القطاع أو الاستيراد من الكيان الصهيوني.
التمويل
تسعى الهيئة على نحوٍ عاجل إلى إيجاد فرص عمل لعشرين ألفاً من شباب القطاع في بعض الدول العربية والإسلامية ذات الدخول المرتفعة مثل قطر والكويت وسلطنة عُمان وماليزيا… وغيرها من دولٍ يستجيب القطاع الخاص فيها بسرعة للمبادرة، على أن يلتزم المرشّحون للوظيفة بدفع 10% من رواتبهم للهيئة المسؤولة عن المشروع.
تدعو الهيئة المسؤولة عن المشروع جميع العاملين في الدول العربية والإسلامية، والراغبين في العالم، إلى التبرّع شهرياً بنسبة 1% من رواتبهم عشر سنوات لصالح إنجاز هذا المشروع. ومن المتوقّع أن يستجيب لذلك الطلب عددٌ كبير من العاملين ليقدّم ذلك تمويلاً ثابتاً كافياً يمكن الاقتراض على أساسه. وتستصدر الهيئة من الجهات الإسلامية ومن علماء المسلمين الفتاوى الصحيحة أنّ المصرف الأهمَّ الآن للزكاة تثبيت المرابطين في بلادهم؛ فهم على أقلّ تقدير الأولى بسهم (في سبيل الله) من مصارف الزكاة، كما تسعى إلى استصدار الموافقات اللازمة لتحصيلٍ مؤسسيٍّ للتبرّعات الشهرية في كل الدول.
كما تسعى الهيئة إلى أن تغطّى تكلفة إنشاء المساجد والمدارس من خلال الدعوة إلى أن تكون أوقافاً لمن يشاء في أرض الرباط، ولا شكّ أنه سيجري تمويل هذه الأوقاف بأسرع ما يمكن. وبعد اتضاح نسبة العائد من تبرّع الـ1% من الرواتب، تقترض الهيئة قروضاً حسنة من البنوك الإسلامية والمؤسّسات التي تقبل بقروض من دون فوائد، فيكون التمويل جاهزاً بأسرع ما يكون، فلا يستغرق المشروع أكثر من عامٍ من بداية التنفيذ. وتقدّم الهيئة للمُقرِضين خدمةً دعائيةً تعويضاً عن الفائدة، أمّا أصل الدين فسوف يُردّ في مواعيده من خلال العائد الدوري.
ويُسنَد التنفيذ لشركات مقاولات كبرى عديدة، إقليمية وعالمية، بحيث يكون سريعاً ومحقِّقاً للهدف منه. وفي حالة زيادة التمويل، وهو متوقّع إذا أُحسن تشكيل الهيئة والدعاية لها ووضع قواعد تدعم الثقة فيها، يمكن تنفيذ مرحلتين، ثانيةٍ وثالثةٍ، حتى يجري إنشاء غزّة الجديدة. ولذلك من المهم أن تشمل قيادةُ الهيئة شخصيات تحظى بقدراتٍ وثقةٍ وسلطةٍ معنويةٍ، مثل شيخ الجامع الأزهر، ورئيس الجمهورية التونسية الأسبق المنصف المرزوقي، ورئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو، والأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية عمرو موسى، والأمين العام للمبادرة الفلسطينية مصطفى البرغوثي، إضافةً إلى عددٍ من كبار الإعلاميين والمؤثّرين والنشطاء الدوليين ورجال الأعمال المشهود لهم، وعددٍ كبير من الشباب وقيادات ورموز الداخل الفلسطيني، على أن يُسنَد الجانب التنفيذي لشبابٍ موثوق في قدراتهم.
واستجابةً للخصوصية الثقافية العربية، يجب أن تعتمد الهيئة العامة في جمع التبرّعات وفي الحصول على الموافقات بالخصم وتحصيل سهم “في سبيل الله” من الزكاة على هيئاتٍ محليةٍ تتسابق في الخير، وتحاول كلٌّ منها ألّا تكون مسبوقة، على أن يكون العمل كله تطوّعياً. وأكاد أزعم (على سبيل المثال) أن المجموعة المصرية لن تسمح بأن تكون مسبوقةً، على الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة.
وسوف يمدّ كاتب هذه السطور الهيئة بما يتطلّبه تحقيق الأهداف السابقة من الدراسات والفتاوى، بحيث تصبح قدراتها أكبر من أهدافها؛ فالأمّة لا تزال بخير، وستظلّ إن شاء الله، ولكن ينقصها إدارة الجهد والتنظيم من أمناء أقوياء، ووجود أملٍ في إنجاز شيءٍ ملموس.
المبادرة المطروحة لو وجدت من يُحسن القيام عليها سيكون نجاحها كبيراً
خاتمة
لا يجوز افتراض صعوبة تنفيذ ما سبق؛ فنحن ننتمي إلى ثقافةٍ وصلت الأوقاف في بعض بلدانها، في بعض الأوقات، إلى نصف الأراضي الزراعية، وسبب ذلك أن للأفكار والإيمان عوائدَ اقتصاديةً كبرى، وأن أفكاراً من قبيل: أن عمل الإنسان ينقطع بعد موته غالباً إلّا من الصدقة الجارية، وأن ما ينفقه الإنسان من المال يَبلى إلا ما يرسله إلى دار البقاء، وأن خير الجهاد الرباط، وخير المرابطين أهل عسقلان، وأن من جهّز مجاهداً فله مثل أجره، كانت وستظلّ ذات مردودٍ ماليٍّ كبيرٍ جداً إذا أحسنّا الإفادة منها.
وقد جرّب كاتب هذه السطور سابقاً الدعوة إلى فكرة التبرّع بنسبةٍ من الراتب في أثناء الانتفاضة الثانية، وكانت نسبة الموقّعين على الطلب 100% من المدعوين إلى التوقيع، مع أن عددهم كان كبيراً، لم تنفّذ الفكرة، إذ تُرِكت في يد بعض أعضاء مجلس الشعب الذي أخذ التفويضات، ثمّ لم يتحرّك لتنفيذها.
وإذا كانت العيّنة في التجربة السابقة غير دالّة، لأنها لم تكن عشوائية، فإنّ نجاح الدعوة الحالية متوقّعٌ تماماً، إذ إنّ ما تستهدفه هذه المبادرة لا يزيد عن عُشر العاملين في بلادنا، لا 100% منهم، في ظلّ ذلك الزخم والأمل الذي أثاره “طوفان الأقصى” المبارك. والخير في هذه الأمّة باقٍ إلى يوم القيامة، والمسلم أخو المسلم لا يسلِمه ولا يخذله، وحاجتنا إلى التوبة ومصالحة المرابطين فوق الوصف، والقدس في شغاف القلوب. ولكلّ ذلك وغيره أعتقد أن هذه المبادرة لو وجدت من يُحسن القيام عليها سيكون نجاحها (بفضله تعالى وبركته) كبيراً، وبذلك لا يقع الأحبّة في الابتزاز، ويشعرون بدفء مشاعر إخوانهم فيسامحونهم، ويزدادون ثباتاً على ثباتهم. وإذا كان النجاح شبه مؤكّد (إن شاء تعالى)، إذا تشكّلت هيئةٌ عامة وهيئاتٌ محليةٌ مناسبة تتفادى المعوّقات وتُحسن استغلال الفرص وصناعتها، فإن هذا النجاح سيكون مؤكّداً وناجعاً وشاملاً إذا ما استطاعت مجتمعاتنا أن تتفادى عناصر النزاع الداخلي المؤدّية للفشل ولذهاب ريحها، على الرغم من عناصر القوّة الهائلة التي تمتلكها.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى