قمة الشرع – ترمب والاتجاهات الأميركية

محمود علوش

كان لقاء الرئيسين السوري أحمد الشرع والأميركي دونالد ترمب في البيت الأبيض، يوم العاشر من شهر تشرين الثاني الجاري، حدثاً تاريخياً بكل المقاييس، سواء على مستوى الرمزية البالغة لوجود الشرع شخصياً في البيت الأبيض، وهو الذي كان مطارداً لسنوات طويلة من قبل الولايات المتحدة، أو على مستوى كونه أوّل رئيس سوري على الإطلاق يجري مثل هذه الزيارة الرسمية إلى واشنطن.
ولأنّ الحدث تاريخي، فإنّ البيانات الرسمية المقتضبة التي صدرت عن واشنطن ودمشق حول اللقاء لا تعكس، بطبيعة الحال، التفاصيل الدقيقة لهذا الحدث وفحوى كل ما دار فيه من نقاشات عميقة ومكثفة.
ففي مثل هذه الاجتماعات والزيارات النادرة جداً، غالباً ما يكون ما لا يُعلن أكثر أهمية وحساسية مما يُعلن، لكن اتجاهات السياسة الأميركية تجاه سوريا بعد هذا اللقاء ستكشف تدريجياً ما لم يُعلن، وما إذا كانت الزيارة تمثل منعطفاً كبيراً جديداً في علاقة الولايات المتحدة بسوريا، وفي دورها الفعال في ثلاث قضايا حيوية تهم الشرع بشكل خاص، وهي: رفع العقوبات عن سوريا بشكل كامل، لا سيما تلك المرتبطة بقانون قيصر، حل العقد المعقدة في ملف دمج “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ضمن الدولة السورية الجديدة، التعامل مع التدخل الإسرائيلي في الجنوب السوري.
قبل الخوض في دلالات هذا الانضمام وفوائده المتوقّعة على المدى الطويل، تظل هناك قضايا حساسة وسيادية تترتب عليه ولم تتضح معالمها بعد بشكل كامل، أبرزها ما يعنيه هذا الانضمام بالنسبة للنشاط والوجود العسكريين للتحالف داخل دولة أصبحت عضواً رسمياً فيه..
ومن الطبيعي تماماً أن يعلّق الشرع آمالاً عريضة على واشنطن في هذه القضايا، لأنّ ترامب يمتلك بالفعل مفاتيح الحلول الرئيسية فيها، فنفوذه القوي على الكونغرس لتمرير إلغاء قانون قيصر يظل عنصراً حاسماً في هذا الاتجاه، والتعليق الأميركي الجديد لعقوبات قيصر لـ6 أشهر إضافية لا يعني تقدماً جوهرياً أو تراجعاً ملحوظاً في السياسة الأميركية تجاه هذه القضية تحديداً، إذ إن هناك مسارين مترابطين يؤثران فيها ولم ينضجا بعد:
المسار التشريعي داخل الكونغرس.
المسار السياسي في العلاقة الثنائية بين واشنطن ودمشق.
وفي الملف الإسرائيلي، فإنّ ترمب هو الشخص الوحيد القادر على الضغط الفعال على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتغيير سلوكه في سوريا، ودفعه نحو الاتفاق مع الشرع على وضع جديد ومستقر.
علاوة على ذلك، فمن الواضح تماماً أن وجود رئيس مثل ترمب في البيت الأبيض فتح آفاقاً واسعة أمام دمشق وأنقرة في التعامل مع قضية “قسد”.
وهنا، يُعطي انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمكافحة “داعش” مؤشراً إيجابياً على تحوّل أميركي تدريجي في العلاقة مع “قسد”، رغم أن خطوة الانضمام كبيرة جداً وسيكون لها تداعيات واسعة تتجاوز ملف “قسد”، إلى تشكيل دور جديد وبارز لسوريا في السياسة الأمنية الأميركية في الشرق الأوسط، وما يعنيه ذلك من تحوّل جوهري في شبكة تحالفات الولايات المتحدة في هذه المنطقة الحيوية.
لقد أصبحت سوريا شريكاً في التحالف الدولي، بعدما كانت خلال حقبة النظام السابق مجرّد ساحة لمشاريع دولية على أراضيها تحت غطاء مكافحة الإرهاب، والفوائد التي ستجنيها الولايات المتحدة من هذا الانضمام لا تقل أهمية عن تلك المتوقعة التي ستجنيها سوريا نفسها.
ومع ذلك، وقبل الخوض في دلالات هذا الانضمام وفوائده المتوقّعة على المدى الطويل، تظل هناك قضايا حساسة وسيادية تترتب عليه ولم تتضح معالمها بعد بشكل كامل، أبرزها ما يعنيه هذا الانضمام بالنسبة للنشاط والوجود العسكريين للتحالف داخل دولة أصبحت عضواً رسمياً فيه، والدور السيادي لسوريا في الإشراف على هذا الوجود والنشاط، وإعادة تنظيمه بما يتوافق مع الوضع السياسي والقانوني الجديد، وأخيراً، طبيعة علاقة التحالف بـ”قسد” في ضوء هذا التحوّل الاستراتيجي.
قبل تبلور إجابات واضحة وملزمة لهذه النقاط الجوهرية، يبقى من الصعب تقديم تقييم دقيق وشامل للفوائد الاستراتيجية والعملية التي ستجنيها سوريا من هذا الانضمام، لكنّه أحد نتائج زيارة الشرع لواشنطن على أية حال، وأي تقييم له ينبغي أن يأخذ هذا السياق السوري الأميركي بعين الاعتبار.
رغم ذلك، فإنّ تعاملات الدول فيما بينها، وتعاملاتها مع إدارة ترمب على وجه الخصوص، لا تخلو أبداً من التكاليف والمساومات المتبادلة، ففي ملف العقوبات، لا يخفي بعض المشرعين الأميركيين الإشارة الصريحة إلى علاقة سوريا بإسرائيل كعامل في تحديد موقفهم من إلغاء قانون قيصر داخل الكونغرس.
وهناك أيضاً مَن يطرح قضية ما يُسمى بحماية الأقليات وعلاقتها بالدولة، وهي قضية غالباً ما تكون ورقة استثمار مفيدة للدول للتدخل في شؤون دول أخرى والتأثير في سياستها الداخلية وحتى الخارجية.
وعلى أية حال، فإنّ الشرع يدرك جيداً أن ترمب لا يقدّم شيئاً بالمجان لسوريا، ولديه مصالح محددة فيها ومتطلبات واضحة منها، بعضها معلن وآخر سيظهر أكثر في المستقبل القريب.
هكذا هي طبيعة علاقات الدول ومصالحها المتبادلة، حتى الإيرانيون والروس لم يقدّما لـ”الأسد” شيئاً بالمجان، لكنه أعطاهما أكثر مما أخذ منهما، وما أخذه كان للبقاء في السلطة على حساب مصلحة سوريا العليا.
سيُعزّز الشرع حكمه بالعلاقة الاستراتيجية مع الأميركيين، لكنّه يتطلع إلى أن يأخذ من ترمب مفاتيح أبواب تحتاج سوريا فتحها بشكل عاجل -من إلغاء قانون قيصر إلى إعادة الإعمار الشامل والاندماج الكامل في النظام الدولي- وأخرى تحتاج غلقها الحاسم، من ملف “قسد” إلى مشاريع إفشال الدولة الوليدة وتهديد وحدة أراضي سوريا وسيادتها.
قد لا نلحظ تحولات جوهرية وحادة في السياسة الأميركية تجاه سوريا في المستقبل المنظور، وقد يحدث جزء من هذه التحولات تدريجياً، لكن ذلك لا يضعف أبداً حقيقة أن زيارة الشرع للبيت الأبيض شكّلت منعطفاً حاسماً في العلاقات الأميركية السورية الجديدة..
وأفضل ما قد يكون الرئيس الشرع قد حقّقه في زيارة البيت الأبيض هو الحصول على أكبر قدر ممكن من هذه المفاتيح الاستراتيجية والعودة بها إلى سوريا.
إن التفسيرات المبالغ فيها لشكليات استضافة ترمب للشرع، إيجاباً أو سلباً، يمكن أن تعطي بعض الانطباعات الأولية، لكنها تبقى مجرّد انطباعات محدودة القيمة السياسية الحقيقية، ولا تعزّز أو تضعف الهدف الأساسي للاستضافة.
أمّا عن الأهداف التي لا تقل أهمية لسوريا ومستقبلها، فتكمن في مخرجات الاجتماع الوزاري الثلاثي السوري الأميركي التركي، الذي عقد بالتوازي في واشنطن، والذي يعكس أولاً مدى الارتباط الوثيق بين السياستين الأميركية والتركية في سوريا، وثانياً أهمية تركيا الاستراتيجية لسوريا في تشكيل علاقتها الجديدة بواشنطن.
ولا يبدو مفاجئاً على أية حال أن يكون الأتراك حاضرون في زيارة الشرع للبيت الأبيض، قد لا نلحظ تحولات جوهرية وحادة في السياسة الأميركية تجاه سوريا في المستقبل المنظور، وقد يحدث جزء من هذه التحولات تدريجياً، لكن ذلك لا يضعف أبداً حقيقة أن زيارة الشرع للبيت الأبيض شكّلت منعطفاً حاسماً في العلاقات الأميركية السورية الجديدة، وفي التموضع الجديد لسوريا على الساحة الدولية، وكذلك في الدور الجديد للعلاقات الأميركية التركية الإسرائيلية في تشكيل مستقبل سوريا.
المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى