إيران في العراق.. إعادة تموضع

عبد اللطيف السعدون

رياح التغيير تهبّ هذه المرّة على علاقة الهيمنة القائمة بين العراق وإيران، والتي لم تستطع أن تحجبها تصريحات المرشد الإيراني علي خامنئي أخيراً، وقد اشتدت عليه الأزمات، وحاصرته الكوابيس والهواجس جرّاء التحولات الدراماتيكية التي حصلت على الخريطة الجيوسياسية في المنطقة في العام الأخير، وجعلته يتذكّر الزمن الذي كانت بلاده تنعم فيه بالأمان فيما وكلاؤه في العراق وسورية ولبنان يدافعون عن مشروعه الطائفي، ويقدّمون أرواحهم من أجله، ولم ينس أن يشير إلى أنه لولا تضحيات وكلائه ومريديه لوصلت المخاطر إلى قلب طهران، وهذه شهادة لم يقصدها، لكنها تؤكّد ولاء زعماء تلك المليشيات السوداء لقم، وخيانتهم ما يفترض أنها أوطانهم التي ينتسبون إليها.
من جانب آخر، عاش فقراء الشيعة العراقيون أزيد من 20 عاماً في ظل تلك الهيمنة الشرّيرة التي أخذت أقدارهم عنوة، وحولتهم الى مشّائين ليلهم ونهارهم، قاصدين أضرحة عتيقة لم تحقق لهم ما وعدوا به، وظلوا أسرى الوهم قبل أن يكتشفوا بعد الأعوام العشرين أن لا شيء يحدث، وأن لا أحد يجيء!
وعلى وقع تلك التناقضات الرهيبة بين ما يفعله وكلاء إيران وما يعاني منه فقراء الشيعة العراقيون، يساور خامنئي قلق حقيقي لإدراكه أن العلاقة غير المتكافئة بين بلاده والعراق، والقائمة على تكريس هيمنة مباشرة على القرار العراقي في مختلف مفاصله السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية، والتي صنعت له ولمواطنيه الأمان، تتعرّض للانتكاس والتراجع، وأن آخر سد لحماية مشروع “ولاية الفقيه” بدأ يتآكل، ليس نتيجة الضغوط الأميركية فحسب، وإنما أيضا نتيجة ضغوط العراقيين الذين عانوا من إيران ومكائدها، وباتوا يتطلعون إلى الخلاص منها، خصوصاً وهم على أبواب مرحلة جديدة يمكن أن تفرزها الانتخابات البرلمانية الماثلة حيث تكون الظروف متاحة أمامهم للوصول الى هدفهم أكثر من السابق، وهذا الإحساس من دولة “الولي الفقيه” بحجم الخسارة التي ستلحق بها إذا ما أسقط السيل الجارف هيمنتها على العراق دفع مخطّطي سياساتها إلى التفكير الجدّي في إطلاق صيغة “اعادة تموضع” عبر الاستعانة بفاعلية “الدولة العميقة” التي أنشأتها في العراق على امتداد العقدين الماضيين، بغرض وضع الثروة العراقية في خدمة ماكنتها الاقتصادية المحاصرة، ونشر أدبيات مشروعها الطائفي، وخدمة مخطّطاتها في العراق والمنطقة.
تسعى إيران إلى دمج المليشيات بالمؤسّسة العسكرية العراقية، مع الحفاظ على نفوذها السياسي وشبكاتها المالية
يغلب على الصيغة الجديدة التي تريدها طهران طابع المراوغة والمكر، حيث تسعى إلى دمج المليشيات بالمؤسّسة العسكرية العراقية، مع الحفاظ على نفوذها السياسي وشبكاتها المالية، والحرص على إدامة ارتباطها الولائي بالحرس الثوري، وإنْ سرّاً، وهي بذلك لا تلغي حالة الهيمنة القائمة، وإنما تعمل على إخفائها إلى أمد، وربما تمنحها أدواتٍ أكثر فتكاً، وقد نقل تفصيلاتها إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس، وناقشها في زيارته أخيراً التي جرى التكتم عليها مع قادة “الإطار التنسيقي” الحاكم وزعماء المليشيات، وتأمل طهران أن ترضي الصيغة المقترحة ليس العراقيين المعارضين الوجود الإيراني فحسب، وإنما الأميركيين أيضاً الذين طلبوا من حكومة بغداد تفكيك المليشيات بما فيها الحشد الشعبي، ونزع أسلحتها، وإنهاء التدخلات الإيرانية في الشؤون العراقية، وقد عينوا مبعوثاً خاصاً للمساعدة على إنجاز هذه المهام، لكن هذه الصيغة لا تبدو عملية، كما أنها لا تلبي مطلب تفكيك المليشيات ونزع سلاحها على نحو كامل، وقد تسبّب، إذا ما قدّر لها أن تطبق، مشكلة حقيقية لأي حكومة عراقية قادمة، كما قد تكون لها انعكاسات سلبية على العلاقة بين بغداد وواشنطن، وقد تدفع الأخيرة إلى فرض عقوبات مالية أو اقتصادية على بغداد، أو حتى اتخاذ إجراءات عسكرية غير محسوبة.
نفهم من هذا كله أن إيران تريد من خلال صيغة “إعادة التموضع” التي طرحتها أن تظلّ اللاعب الإقليمي الأساسي، والمهيمن على العراق والمتحكم بقراره، لكنها لا تجد المرحلة مناسبة لكشف ذلك علنا، وكل ما تريده اليوم هو شراء الوقت إلى أن تجد اللحظة المناسبة لتكريس هيمنتها من جديد، مستخدمة مبدأ “التقية” الذي يمنحها غطاء شرعياً لفعلتها.
وما نفهمه أيضاً، على صعيد الموقف العراقي، أن على الحكومة التي ستنبثق عن الانتخابات البرلمانية الحالية أن تتحمّل مسؤولية مواجهة الهيمنة بكل صورها، وأن تعمل على صياغة معادلة جديدة تضمن علاقة متكافئة مع طهران، وبذلك تكون قد رسمت الخطوة الأولى على طريق بناء دولةٍ ذات سيادة، وصاحبة قرار مستقل.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى