دمشق في معسكر الحرب على الإرهاب

صبا ياسر مدور

في السياسة الدولية، لا يقاس التغيير بسقوط الأنظمة بقدر ما يقاس بإعادة تعريف الأدوار. فاليابان وألمانيا خرجتا من الحرب العالمية الثانية مهزومتين عسكرياً، لكنهما أعادتا بناء شرعيتهما على أسس جديدة، مستندتين إلى الدور الاقتصادي والأمني داخل النظام الغربي. على النقيض، حافظت روسيا رغم انهيار الاتحاد السوفياتي على تركة القوة والنفوذ ذاتها. في الحالتين، لم يكن التاريخ هو الذي حكم المسار، بل الكيفية التي اختارت بها الدول التعامل مع ماضيها.

من هذا المنظور، يمكن النظر إلى الزيارة المرتقبة للرئيس أحمد الشرع إلى واشنطن، وانضمام دمشق إلى التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، باعتبارها خطوة ضمن مسارٍ أوسع تسعى من خلاله سوريا إلى القطع مع ماضيها، وإعادة تثبيت موقعها كفاعل داخل النظامين الإقليمي والدولي. فبعد سنوات من الحرب والعزلة، تحاول دمشق أن تجد لنفسها موقعا مطلوباً، مستفيدة من حاجة القوى الإقليمية إلى تثبيت الاستقرار كشرطٍ لإنعاش اقتصاداتها، ومن حاجة القوى الكبرى إلى شركاء محليين يمكنهم إدارة ملفات الأمن والمصالح على الأرض.
أميركياً، تجيد واشنطن منذ عقود إعادة هندسة التوازنات الإقليمية بما يخدم مصالحها، فهي قادرة على إعادة بناء شراكاتها مع أكثر الأطراف ابتعاداً وبعداً وفق مقتضيات اللحظة السياسية وأولوياتها الاستراتيجية. بعد حرب تشرين 1973، نجحت في تحويل مصر من حليفٍ للسوفيات إلى شريكٍ رئيسي في إدارة توازنات الشرق الأوسط، منتقلة بها من جبهة المواجهة إلى محور الوساطة مع إسرائيل. وفي الثمانينيات أيضاً، كررت واشنطن النهج ذاته مع باكستان في عهد ضياء الحق، حين جعلت منها، رغم التباين الأيديولوجي العميق بين النظامين، حليفاً استراتيجياً في حربها غير المباشرة ضد الاتحاد السوفياتي، عبر تمويل وتسليح وتدريب فصائل المجاهدين الأفغان.

في الحالة السورية، تبدو المقاربة الأميركية امتداداً لنمط مؤسساتي راسخ في إدارة النفوذ، أكثر منها نتاجاً لرغبة شخصية من الرئيس دونالد ترامب أو لأي رئيس آخر، في تسجيل اختراق سياسي في الشرق الأوسط. فالتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة ليس أداة عسكرية فحسب، بل غلاف سياسي واسع الاستخدام، توظفه واشنطن لإعادة توزيع الأدوار الإقليمية والاصطفافات، بما يخدم معادلتها الثلاثية: ضبط النفوذ الإيراني، وتأمين الحدود الإسرائيلية، وتثبيت موقعها القيادي في النظام الدولي. ضمن هذا الإطار، الشراكة مع دمشق الجديدة هي جزء من رؤية أمنية متكاملة تسعى من خلالها الولايات المتحدة إلى تحقيق أهداف متعددة، تحت عنوان واحد هو مكافحة الإرهاب. لذلك تطلبت هذه المقاربة إشراك دمشق كدولة وإبعاد قسد كفصيل، باعتبار أن الدولة السورية تتمتع بشرعية داخلية أوسع، وتمثل ثقلاً سنياً يضفي على التعاون بعداً سياسياً وأمنياً مختلفاً. وهو ما لم يتوفر في تجربة قوات سوريا الديمقراطية، التي رغم دورها الوظيفي منذ عام 2014، بقيت محدودة سياسياً، إذ أفرزت كياناً يفتقر إلى الشرعية الدولية، وأدخلت واشنطن في توتر دائم مع أنقرة، حليفتها في حلف شمال الأطلسي.

يدخل الرئيس أحمد الشرع إلى واشنطن مدركاً أن الاهتمام الدولي بسوريا الجديدة لا يرتبط بموقعها الجيوسياسي فحسب، بل بطبيعة التجربة السياسية والأمنية التي تمثلها الدولة الجديدة نفسها. فمع محدودية قدراتها العسكرية، وترسانتها التي لا تزال تحمل بصمات الإرث الروسي، واستمرار القيود الإسرائيلية على امتلاك أي مقومات قوة نوعية أو طبيعية، تبقى القيمة الحقيقية لسوريا الجديدة في الخبرة التي راكمتها في التعامل مع ظاهرة العنف الجهادي من داخلها لا من خارجها. فالسلطة الحالية نشأت في قلب البيئات التي أنجبت تلك التنظيمات، وخوضها صراعات ضد تنظيم الدولة، إلى الفصائل المتفرعة عن القاعدة، منحها فهماً دقيقاً لبنيتها الداخلية وخطابها ودوائر نفوذها الاجتماعية. هذه المعرفة تمنح دمشق الجديدة موقعاً خاصاً في الحسابات الأميركية.
في المقابل، ما تقدمه دمشق ليس مجانياً. فالرئيس أحمد الشرع يرى في التحالف مع الولايات المتحدة فرصة لترسيخ الشرعية الدولية، والخروج من صورة سوريا الدولة الراعية للإرهاب، وتثبيت موقع سوريا ضمن منظومة الأمن الإقليمي. ويعتبر أن التعاون ضد تنظيم الدولة يمكن أن يشكل مظلة سياسية استراتيجية لسوريا لرفع العقوبات عنها، واستعادة علاقاتها مع أوروبا، وفتح قنوات اقتصادية حقيقية تمهد لإعادة الإعمار. كما يدرك أن واشنطن، التي أنهكتها حروب الشرق الأوسط، تبحث اليوم عن نموذج محلي يدير الأمن بالوكالة، ويحافظ في الوقت نفسه على مصالحها من دون كلفة عسكرية أو سياسية.

لكن في جوهر التقارب بين دمشق وواشنطن تكمن معضلة حساسة، إذ إن كل خطوة نحو شراكة علنية في الحرب على تنظيم الدولة، تمنح التنظيم مادة دعائية جاهزة يعيد توظيفها في سرديته القديمة عن اتهام الدولة الجديدة في الردة والتحالف مع الصليبيين، مما ينعش خطاب المظلومية الذي شكل أحد ركائز تمدده الأولى. هذا الخطاب سيجد ما يغذيه في تعقيدات المرحلة الانتقالية داخل سوريا من الفراغات الأمنية في بعض المناطق، من ملف الجنوب الأمني، إلى التوترات في الساحل، وموقف قسد التفاوضي وما سيرافقه من محاولاتها الأخيرة لعرقلة قدرة الدولة في دمشق على إدارة الأرض وضبط ملف داعش.

خلال تحقيقٍ استقصائي سابق أجريته مع سجناء من عناصر تنظيم الدولة في العراق، تكرر شعور عميق بالظلم وغياب العدالة ورغبة في الثأر، بوصفه القاسم المشترك لانضمام الكثير من العراقيين لصفوف التنظيم. وهذا الشعور إذا تم إهماله يمكن أن يجد صداه مجدداً في سوريا الجديدة، إذا استمرت معاناة الناس بمواجهة واقع اقتصادي صعب وبطالة متصاعدة، وتعثر مسارات العدالة الانتقالية في خلق شعورهم بالإنصاف والمساواة والاعتبار.
ولهذا، فإن التحالف الجديد، وإن بدا فرصة تاريخية غير مسبوقة لسوريا الجديدة، لا يمكن اختزاله في توقيعٍ سياسي داخل البيت الأبيض. فهو يتطلب تفاهماً دقيقاً على ترتيبات أمنية واضحة، تضمن لدمشق الأدوات اللازمة لإثبات قدرتها على أداء دورها في هذا الموقع الجديد. ويبدأ ذلك من معالجة جذرية وسريعة لملف قسد، ورفعٍ نهائي للعقوبات من دون إخضاعه للمراجعات الدورية، بما يتيح مداخل حقيقية لبدء عملية إعادة الإعمار. فترك هذه الأعباء على الدولة الجديدة وحدها سيجعل كلفة الحرب على الإرهاب تتجاوز ميدانها العسكري لتتحول إلى معركة في قلب المجتمع.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى