التنظير المنفصل عن الواقع وأدوات تحقيقه

   أسامة أبو ارشيد

التحليق في فضاء الوهم، أو الابتعاد عن الواقع، أو تحديد أهداف كبرى من دون أدوات واضحة لتحقيقها… ذلك كلّه يندرج ضمن الأعطاب التي يعاني منها منطق تياراتٍ كثيرة تسعى إلى إحداث تغييرات اجتماعية، ثقافية وسياسية بنيوية. كثيرون منهم ينسون (أو يتناسون) في خضمّ الوعود الكبرى مثل التحرير الكامل، والعدالة المطلقة، والنهضة الشاملة، واجتثاث الفساد، والانتصار بعد الهزيمة، وإقامة حكم ديمقراطي رشيد، أنّ التنظيرات العالية التي تحلّق فوق الواقع من دون وعي دقيق بتضاريسه، ومن دون أن تترافق مع خطط عملية ووسائلَ قابلةٍ للتنفيذ، إنّما هي وصفة للإحباط والانكسار والبقاء في قاع الفشل والهوان. ويزعم كاتب هذه السطور أن حراكاتٍ وتجمّعاتٍ كثيرة ترفع اليوم شعارات كبرى، لكنّها لا تقدّم خريطة طريق، ولا وسائل عملية، لتجسيدها. وهذا تبديد لطموحاتٍ كبيرة، وتضييع لجهود مضنية، وإشاعة لليأس من إمكانية إحداث التغيير.

يميّز بعض المفكرين بين الحلم والرؤية. فحركات التغيير قد تبدأ بحلم، لكن هذا الحلم يظلّ مجرّد أمنية، أو حتى وهماً، إن لم يتحوّل خطّةَ عمل تحدّد الأهداف، وسبل الوصول إليها، والوسائل والأدوات اللازمة، ونوعية القيادة والجنود المناط بهم تنفيذ المهمة. فإذا تحقّقت هذه الشروط، نكون قد دخلنا في إطار الرؤية، ويبقى التنفيذ وكفاءته هو الفيصل. المطلوب هنا ليس تقليص الطموح، بل تجذيره والربط بين الأهداف والوسائل، بين الشعارات والبرامج، وبين الرؤية والواقع. وما سبق ليس شروطاً تعجيزية، ولا سفسطةً لا طائل منها، بل هي أوّليات لا يمكن لأيّ حركة تروم تغيير واقع ترفضه أن تمضي قدماً من دونها. كذلك، فإن ما يُطرح هنا ليس استثناءً تاريخياً، ولا اختراعاً لوصفة لم تُختبر، بل هو خلاصة خبرة إنسانية تراكمت عبر العصور.

حراكات وتجمّعات كثيرة ترفع اليوم شعارات كبرى، لكنّها لا تقدّم خريطة طريق، ولا وسائل عملية، لتجسيدها

تداعت هذه الفكر إلى ذهن الكاتب حين كان يحضر ندوةً سياسيةً (قبل أيام) تناولت تحدّياً هائلاً نواجهه نحن العرب. ويمتنع الكاتب عمداً عن تحديد عنوان التحدّي، لا فقط اتّقاءً لأيّ إساءة غير مقصودة، بل لأنه يرى أن العبرة في المعنى والفكرة، لا في المسمّيات والتوصيفات. ما هو مدهش في الندوة كان التعميمات التي طبعت مداخلات جلّ المشاركين، وتولّد انطباعاً بأن بعض المتحدّثين كانوا يبنون قصوراً في الهواء، يهيمون في تنظيرات بلا جذور تصلها بالواقع، دع عنك أن تكون مغروسة فيه. آخرون طرحوا عناوين وشعارات كبرى، وأهدافاً استراتيجية بعيدة المدى، لكن ما كان مفقوداً هو التحديد الدقيق للوسائل والأدوات والخطط، وهُويَّة من سيجسّد تلك الطموحات الحالمة. وكان هناك إسراف في إسباغ صفات مثل “الإلهام” و”التفكير الاستراتيجي العميق” على بعض المشاركين من مقدّمي فقراتهم، مع أن من يدقّق في طروحاتهم سيجدها عناوين فضفاضة، بلا أيدٍ تمشي عليها، ولا أقدام تسندها، ولا حتى بطون تزحف بها. كانت مجرّد شعاراتٍ برّاقة وجذّابة، قد تقنع البسطاء المتلهفين لأيّ انتصار أو أفق، حتى لو جاء عبر تخديرهم وخداعهم.

لا يؤمن الكاتب باليأس، ولا يراه مشروعاً. لكن في الوقت ذاته، يؤمن يقيناً بأن الأمل ليس مجرّد رغبة أو حلم أو طموح، بل هو هدف نبنيه ونحقّقه بأنفسنا. وهذا يتطلّب إيماناً عميقاً، وقناعةً ودافعية وجهداً ومثابرة. لكنّه، قبل كل شيء يحتاج إلى رؤية وخريطة طريق، وخطّة وتحديد للوسائل والأدوات، وآليات تنفيذ بكفاءة ودقّة عاليتَين. من دون ذلك، نكون نخدع أنفسنا والجماهير، وننخرط، من حيث لا ندري، في نوع من الخيانة تجاه المشاريع العامة أو الخاصة التي نزعم أننا نريد تحقيقها. وهنا تبرز مسؤولية من يقدّمون أنفسهم منظّرين وقادة. لا ينبغي لهؤلاء أن يكتفوا بإطلاق الشعارات عالية السقوف، وتحديد الأهداف الكبرى، من دون توضيح كيفية ترجمتها خططاً وأدواتٍ وعملاً، عبر تفاعلٍ حيٍّ بين الأهداف والوسائل، والمثال والواقع. وما دون ذلك لا يعدو تنظيراً مجتثاً من فوق الأرض لا قرار له، وصاحبه ليس مُلهِماً، بل معتاشاً على التبسيط المُخِلّ الذي قد يستهوي البسطاء ويخدعهم، لكنّه لا يغيّر واقعاً، ولا ينهض بحلم، ولا يحقق هدفاً.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى