
ميدان السياسة هو ميدان العقل، الخلل في السياسة العربية كان دائما مرتبطا باللاعقلانية، بإحلال الرغبات والعواطف والأحلام مكان الواقع وما يحمله من إمكانات أو لا يحمله .
السياسة فن الممكن وليس المستحيل، الفرق لا يمكن تمييزه سوى بالعقل البارد.
السوريون كانوا دائما يدفعون أثمانا باهظة حين يسيرون خلف عواطفهم دون وضع أهدافهم تحت مجهر العقل .
في أواخر العام 1919 توصل الأمير فيصل بن الحسين لاتفاقية مع رئيس الوزراء الفرنسي كليمنصو تقتضي باحترام الكيان السوري الوليد ” المملكة العربية السورية لاحقا ” تحت حكم فيصل , وجعل الانتداب الفرنسي بمثابة إشراف إضافة لامتيازات محددة للدولة الفرنسية .
وقع كل من كليمنصو وفيصل المعاهدة بالأحرف الأولى على أن يتم اعتمادها من المؤتمر السوري العام والبرلمان الفرنسي .
عاد الأمير فيصل لدمشق فخرجت في وجهه المظاهرات الغاضبة , وجرى انتقاد المعاهدة انتقادا مريرا في الشارع وداخل المؤتمر السوري , حتى وصل الأمر إلى تخوين الأمير فيصل , وأصبح يخاف من هجوم محتمل على قصره بدمشق , رضخ الأمير فيصل لرغبة السوريين وسقطت المعاهدة فماذا كان البديل؟
تغيرت الوزارة الفرنسية وحل مكان كليمنصو رئيس وزراء يميني متشدد فلم يكتف بإسقاط المعاهدة نهائيا بل أرسل جنرالا فرنسيا معروفا بصرامته اسمه غورو لبيروت مع صلاحيات عسكرية كاملة لاجتياح سورية وإنهاء الدولة السورية وفرض حكم عسكري .
اقتحم غورو دمشق بالقوة بعد معركة ميسلون , وطرد الملك فيصل وحاشيته من سورية وجميع وزرائه ماعدا الذين اعتبروا أعداء لفرنسا حيث حكم عليهم بالاعدام , ورزحت سورية تحت احتلال عسكري شبه مطلق تحت مسمى الانتداب 26 عاما .
ليس لدي شك في أن معاهدة كليمنصو – فيصل كان يمكن لها تجنيب الدولة السورية ذلك الاحتلال العسكري الذي أعاد سورية للوراء رغم ماحمله من لمسات حداثية على صعيد الادارة والتنظيم لاحقا . في تجربة وحدة 1958 كان الأفضل إنشاء اتحاد فدرالي أو كونفدرالي مع مصر مع احتفاظ كل قطر بهياكله السياسية والاداريةوالاقتصادية ووجود مؤسسات مشتركة خاصة في حقلي الخارجية والدفاع , الوحدة الاندماجية لم تكن الخيار الصحيح العقلاني لكنها كانت تلبية للعواطف والرغبات , الثمن تم دفعه لاحقا في الانفصال , ثم في عدم استقرار النظام السياسي السوري الذي واجه رغبة شعبية عارمة في استعادة الوحدة.
مرة ثانية ركبت مجموعات عسكرية على العواطف الشعبية وقامت بانقلاب آذار 1963 لكن الوحدة لم تستعد قط.