
لا يشكّل مبحث الاقتصاد الرمزي للحرب نظريةً، وإنما أفقاً نظرياً ملهماً، اعتماداً على تجارب الحروب التي عاشتها المجتمعات، ومناويل التخلّص من آثارها على نحو استُثمرت فيه “ما بعد الحرب” من أجل إعادة بناء المجتمع وهندسة علاقاته بذاته وبغيره. تعلّمنا هذه التجارب أن شعوباً خرجت من حروبٍ خاسرةٍ محطّمة منهارة، غير أنها سرعان ما أعادت بناء نهضتها، حتى تربّعت مجدّداً في صدارة التاريخ، وحازت جدارة ومرتبة راقية حوّلت هزيمتها مجداً. حين ننظر إلى ألمانيا واليابان وكوريا وغيرها ندرك أن الحرب لم تكن كارثةً وكابوساً فحسب، بل أيضاً فرصة نادرة لإعادة ترميم الأمّة وتدبّر مسالك النهوض. يقول العرب: “ربّ ضارّة نافعة”، ولكن نادراً ما جعلنا من الضرر منفعةً.
لا تكون الهزيمة في ميادين القتال فقط، بل حين تعجز الشعوب عن تحويل خسارتها إلى طاقة رمزيةٍ جامعة
خاضت شعوبٌ عربيةٌ حروباً مريرةً وقاسيةً في العصر الحديث: الجزائر، مصر، العراق، سواء كانت حروبَ تحرّر وطني أو حروب جوار وأطماع، ولكن المخاطر تتالت بعدها، وتعمّقت الهزائم، وظلّت تلك البلدان تجرّ أذيال الكبوة تلو الأخرى. انتهت الحروب، ولكن كوابيسها ومخلّفاتها ظلّتا تطحنان المجتمع. الاقتصاد الرمزي للحرب في حالة التجارب الناجحة حين استطاعت الأمم أن تكسب “زمن ما بعد الحرب”، رغم أن الخسائر الفادحة للحرب نفسها تكمن في القدرة على إدارة الأزمتَين النفسية والذهنية الحادَّتَين التي تمر بهما المجتمعات، وقد تصلان إلى فصام الهُويَّة وفقدان الثقة في الأمّة، علاوة على إدارة علاقات مَرضية مع الآخرين. قد يتحوّل الآخر عدوّاً أبديّاً. ثمّة جفاء عميق يظلّ سارياً في وجدان الناس الخارجين من الحرب، ولكن ثمّة علاج وجداني عميق في استطاعته أن يجعل عدوّ الأمس “آخرَ” فحسب. إطفاء نار الخوف والرهاب مهم، وهو معركة رابحة لا محالة، لأنها تتيح حقلاً واسعاً من الرموز التي تهدّئ من روع الشعوب وتمنح الطمأنينة للناس.
في السياقات العربية، ولأسباب عديدة، منها نشوء الدولة العربية وطبيعة الأنظمة التي قادتها، علاوة على شخصيات قادتها وزعمائها ضمن خصائص الاجتماع السياسي لنخبه، لم نفلح تقريباً في تحويل خسائرنا العسكرية التي مُنيت بها جيوشنا غنائمَ رمزية. فتّتت مشاعر العزّة الوطنية في العراق، وتحوّل زمن ما بعد الحرب إلى ما يشبه الفتنة الطائفية الدائمة التي تفترس فيها مشاعر الانتماء إلى وطن واحد. واستئثار النخب العسكرية في كل من الجزائر ومصر بمصير البلد، قد دفعها إلى أن تحتكر الوطنية، فضلاً عن هوس ملكية الدولة في صورة إقطاعيّات أوليغارشية. انتهت جبهة التحرير الوطنية طائفةً سياسيةً منبوذةً، ولا يختلف الأمر في مصر التي لا يزال الجيش فيه محتكراً كل شيء، بما فيه الدولة والوطن.
لا يمكن إغفال أن الحرب الصهيونية أخيراً على قطاع غزّة، وبقطع النظر عن تقييمنا العسكري نتائجها رغم أنها توحي للوهلة الأولى بأن الكفّة فيها مالت إلى الكيان الإسرائيلي، يمكن أن تكون نتائجها من وجهة نظر الاقتصاد الرمزي للحرب لمصلحة المقاومة، وللفلسطينيين عموماً، ذلك أن هناك أرباحاً رمزيةً لا تُقارن بما تكبّدته إسرائيل خلال السنتَين، وبشكل تدريجي، من خسائر رمزية فادحة. كانت القدرة على توليد المعنى قطاعاً اقتصادياً فائض المنفعة في ما يخص غزّة وأهلها الأباة.
قدّمت غزّة للعالم درساً في الاقتصاد الرمزي للمقاومة، فربحت المعنى وإن خسرت معارك
من بين غنائم الحرب تلك السردية التي قدّمها الفلسطينيون، وتلك الرواية الإنسانية الرائعة التي أظهرت ملحمةً أسطوريةً عن شعبٍ رفض الاقتلاع، وظلّ لصيقاً بأرضه، حتى إن ردم تحتها. لم يغادر هذه المرّة طائر الفينيق عشّه، وآثر أن يظلّ منتصباً في أرضه، ومن رماده تكوّنت بيضة الحياة وعاد إلى العالم من جديد. آثر أن يحترق على أن يطير فراراً. صورة غزّة، هذا المربّع الصغير الذي سوّي بالأرض، ظلّ بشرُه صامدين واقفين. يكاد يكون الصمود الفلسطيني ورفض التهجير أسطورةً علينا أن نرتقي بها إلى مرتبة المعجزات. قد نجد لهذه الأسطورة ما يضاهيها في ثقافة جلّ الحضارات القديمة، ولكن الغزّيين وحدهم يقدّمون نموذجاً حيّاً لأسطورة معاصرة. توليد المعنى والارتقاء إلى مراتب الأساطير الخالدة جعلت غزّة أيقونةً انشدَّت إليها أفئدة الناس وعواطفهم.
العاطفة الجيّاشة التي حبت بها شعوبُ العالم غزّة، والتقدير الذي حظيت به غزّة، يمكن أن يراكم عليهما الفلسطينيون (والغزّيون خصوصاً) تجاربهم اللاحقة في مزيد من الالتفاف حولهم من أجل الاعتراف بدولتهم والذهاب بعيداً. تسرّب تصريح لترامب يفيد بأنه ذهب مجبراً إلى وقف الحرب خشيةً على نتنياهو، الذي “لن يستطيع محاربة العالم بأسره”. ربّما خسرت غزّة معركتها مع العدو، ولكنّها ربحت معركة أخرى، هي الرأي العالم العالمي، الذي ارتقى بغزّة إلى مرتبة الأيقونة. ومع ذلك، ثمّة ما يفسد علينا فألنا: حالة الانقسام، ومعاركنا الصغيرة التي تحجُب عنّا القمم. ينبّهنا المتنبّي بحكمته المدهشة: وتعظُم في عين الصغير صِغارها/ وتصغُر في عين العظيم العظائم.
المصدر: العربي الجديد