
إنّ أصغرَ لوحةٍ من لوحاتِ هذه الحياة ما هي إلّا سلسلةٌ من الأحداث، وكلُّ حدثٍ فيها له صدى وأثرٌ وصورةٌ ولون، وزمانٌ ومكانٌ يتحرّك فيهما.
نعم، يمكن أن نتّخذ من حدثٍ واحدٍ أو مشهدٍ واحدٍ موضوعًا لنجسّده في لوحة، لكنها لن تكون لوحةً شاملةً عن كلّ ما حدث، إنّما هي رؤيةٌ أحاديةٌ تجتزئ زاويةً معيّنةً وتُسلّط الضوء عليها.
ومهما يكن، فلوحاتُ الحياة تُحاك قطبةً إثر قطبة، ومشهدًا بعد مشهد، ولحظةً تلوَ اللحظة، وهو ما يحدث أيضًا في اللوحاتِ التشكيليةِ والروايات وغيرها؛ فقد ظلّ ليوناردو دا فينشي – على سبيل المثال – يعمل على لوحة “العشاء الأخير” (1495–1498) ثلاثَ سنوات، واستغرقت كتابةُ رواية “الحرب والسلام” لتولستوي ما يقارب سبعَ سنوات (1863–1869).
وكما في اللوحات والروايات والحياة، هناك دولٌ استغرق شعبُها في رسمها مئاتِ السنين حتى وصلت إلى ما هي عليه من حداثةٍ وتقانة، ومع ذلك لم يكتمل رسمُها حتى الآن في مخيّلة مواطنيها عنها، في زمنٍ يمضي عاصفًا بالتحوّل، ولا يُتيح لشيءٍ أن يكتمل أو يستقرّ.
إن كانت هناك لقطاتٌ ولحظاتٌ جرت فيها أحداثٌ داميةٌ ومريبة، كما في اللاذقية والسويداء، وفي غيرهما من المدن السورية، فهذا لا ينفي أنّ في اللوحة أيضًا لحظاتٍ وأحداثًا مضيئةً ومبشّرة.
فما بالُنا نحنُ السوريين نستعجل رسمَ اللوحة، ونحكم عليها قبل أن تكتمل اللحظاتُ الأولى من المشهد الأوّل، وقبل أن تكون هناك لوحةٌ بالأساس، إلّا تلك التي تتقافز في رؤانا ومخيّلاتنا وكوابيسنا؟
أجل، فاللوحةُ التي يرسمها السوريون لم تزل في لحظاتها الأولى، وأحداثُها وفضاءاتُها مبعثرةٌ ومفكّكة، وهي تُرسَم على رقعةٍ أكلتها نيرانُ البراميلِ والصواريخ، وحطبُ الدم، وفجأةً انبثقت منها أنفاسُ السوريين آتيةً من رحمِ الموت، وقد وجدوا أنفسهم في فضاءٍ جديدٍ لم يألفوه ولم يعتادوه من قبل.
ومن السابق لأوانه أن نُطلق أحكامَنا على لوحةٍ لم تكتمل، أو أن نستخلصَ منها ملامحَ ما سوف تمضي إليه.
وإن كانت هناك لقطاتٌ ولحظاتٌ جرت فيها أحداثٌ داميةٌ ومريبة، كما في اللاذقية والسويداء، وفي غيرهما من المدن السورية، فهذا لا ينفي أنّ في اللوحة أيضًا لحظاتٍ وأحداثًا مضيئةً ومبشّرة.
وربما كان أوّلَ خيطٍ تجلّى فيها، وأوّلَ ضوءٍ، لحظةَ سقوطِ الأسدية، وتحرّرِ سوريا من معتقلها الكبير، ولحظةَ إطلاقِ سراحِ المساجين من الزنازين، وغيرها من اللحظات الكثيرة.
ولو أنّ رسّامًا جاء ليرسم أيّاً من تلك اللحظات بحلوها ومرّها، ويركّز عليها دون غيرها، فباعتقادي لن يكتمل المشهد، وسيبدو منقوصًا، ولن تكون هناك لوحةٌ سوريةٌ مكتملة.
وربما من أجدى وأجملِ ما يمكن أن يرسمه السوريون في هذه اللحظات، أن يُبادر كلٌّ منهم إلى رسم اللحظة التي يريد، والصورة التي يهوى، والمشهد الذي يتوق إليه، لكن أن يرسم ذلك كلّه ضمن اللوحة السورية الواحدة.
فالصورُ واللقطاتُ واللحظاتُ في تاريخ الشعوب لا تأتي لتُبرّر أو تُلغي بعضها، إنّما هي تتضافرُ وتتَكامل، ومنها تتشكّل اللوحة.
والكتابةُ، كعادتها، تقف حائرةً فيما تختار من اللحظاتِ للكتابة عنها، أمام الدفق الهائل من الصورِ والأحداثِ المتهاطلة عليها.
لكن لِنُحرِّرها الآن من حيرتها، ولنختَرْ لها لحظةً مفصليةً جديدةً في تاريخ الحياة السورية، تجلّت بوقوفِ الرئيسِ السوري أحمد الشرع على منبرِ الأمم المتحدة، وكأنّها لحظةٌ أتت لتمهّد الطريق أمام عودةِ البلدِ المنكوبِ والمدمَّر إلى دول العالم، وتُخرجه من الموقعِ المنبوذ الذي كان فيه على مدار ستة عقود، وربما أكثر.
ولعلّ أكثرَ ما يلفت الانتباه في هذه اللحظة هو الحالةُ العاطفية التي عاشها السوريون وهم يرون رئيسَ دولتهم يُستقبَل من رؤساء الدول ومسؤوليها، وعلمَ بلادهم يرفرف في الأمم المتحدة.
ترى، ألا يشي ذلك، على الأقل، بأنّ سوريا تُبعث من جديد، وأنه بات لها موقعُها وأثرُها في خارطة العالم المتحضّر؟
وأنّ هذا الإنجاز العظيم ليس نبوءةً ولا هديةً من أحد، إنّما يعرف العالم، ويعرف السوريون جميعًا، أنّها حصيلةُ أعوامٍ طويلةٍ من التضحياتِ والتفانيِ وكفاح ملايين منهم.
وضمن هذه اللحظة يتسلل إلى الكتابة حدثٌ آخر لافت، تمثّل بلقاء المديرِ السابق لوكالة الـCIA، الجنرال ديفيد بتريوس، مع الرئيس أحمد الشرع على هامش قمة كونكورديا.
ولكن هنا تحوّل السيد ديفيد بتريوس إلى صحفي، والشرع صار رئيسًا لدولة!
ماذا يمكن أن يُستخلص من أن يلتقي مَن كان يدير جهازَ المخابراتِ الأميركية مع المطاردِ أبي محمد الجولاني، ويقول الأول للثاني في هذا اللقاء: “أنا معجبٌ بك، ومذهولٌ من تاريخك، وكيف وصلتَ إلى ما وصلتَ إليه”؟
ترى، ألا يستدعي هذا أن نقول أولًا: يا لهولِ أحداثِ الزمنِ والتاريخ، كيف تسير وتتحرّك، وكيف تُفاجئ الجميع دائمًا ولا تتعب؟!
لكن لنتعامل مع هذه اللحظة على نحوٍ مختلفٍ الآن، ولنجرّب أن نطرح من خلالها سؤالًا مغايرًا:
ترى، هل كان السيد ديفيد بتريوس مذهولًا ومعجبًا فعلًا بالسيد أحمد الشرع، أم أنّه بكلامه المعسول هذا كان ينسج خيوطَ مؤامرةٍ على سوريا؟
باعتقادي، وحتى إن وُجدت المؤامرات بالفعل، فهي لا تُوجَد على السطح، ولا تُطبَخ في العلن، وإلّا لكانت مؤامرةً على الذات والنفس، وعلى العالم بأسره، وهذا لا يمكن أن يحدث أبدًا.
فالمؤامراتُ دائمًا تُحاك ضدّ الغير، لا ضدّ الذات، وهي لذلك تُحاك في الخفاء، وفي دهاليزِ الأقبية، لا تحت الضوء، وذلك لئلّا تنجوَ منها الضحية المستهدفة.
ما يشي، ربما، بأنّ هذا الحدث بحدّ ذاته ليس فيه ضحية، وهو في سياقه الدراميّ المتحوّل مذهلٌ ومدهشٌ بالفعل، وأنّ السيد ديفيد بتريوس لا يحيك مؤامرةً من خلال ما يقول، بل كان مندهشًا ومذهولًا، ولا يكذب على نفسه — بحسب ظنّي على الأقل.
لا أعتقد أنّ أحدًا منهم بعد الآن سيخاف الموت كما كان يخافه من قبل، فقد تلاشى عنهم هاجسُ أن يكون قبرُهم في الغربة، في آخرِ لحظةٍ من لوحةِ حياتِهم.
ولعلّ مثلَ هذه اللحظة تكون دافعًا لسؤالٍ ثانٍ يحاول أن ينفي فكرةَ المؤامرة، ويحوم حول كيفيةِ تشكّلِ الألوانِ والخطوطِ في اللوحة السورية، التي منذ عقودٍ طويلةٍ لم تُمثَّل في منبرٍ يُفترض أنّه من أرفع منابر الدول وأكثرها حرصًا على سيادتها.
ألا يشي ذلك بأنّ سوريا أضحت دولةً معترَفًا بسيادتها الكاملة على أراضيها، وأن ما من تقسيمٍ سيجري على أرضها؟
ألا يشي ذلك بأنّ هذه الدولة الوليدة الخارجةَ الآن من حقبةِ الظلام تمضي إلى الرفعةِ والنور، وأنّ السوريين ماضون معها إلى هناك؟
وحتى إن لم يكن هناك جوابٌ بعدُ عن سؤال هذه اللحظة، فهي بحدّ ذاتها لحظةٌ مهمة في تاريخ الحياة السورية، لكنها قد لا تكون كذلك في لعبة الزمن، التي ما من أحدٍ إلا الله يعرف مصيرها. وطالما أنّ الرسمَ فيها لم يكتمل بعد، كما هي الحال في اللوحة السورية التي بدأ السوريون الآن برسمها، آملين أن تُشبههم وتشبه ما يحلمون به ويتمنّونه.
وفي داخل هذه اللحظة أيضًا، هناك لحظةٌ وجدانيةٌ، تمثّلت برؤية السيد صفوح البرازي، الرجلِ الطاعنِ في السنّ، وهو يحتفي بوصول السيد أحمد الشرع إلى واشنطن، ويقول فيه المديحَ والغزل، والأخيرُ يُقبّل رأسه ويُجلِسه إلى جواره على الكرسي.
دعونا الآن من المبالغاتِ والاستعراضات، إن كان في هذه اللحظة مبالغاتٌ واستعراضاتٌ أصلًا، ولنسأل: ماذا يعني أن يجلس السيد صفوح البرازي، وهو واحدٌ ممن كانوا أعضاءَ في الكتلة الوطنية السورية، وقد حُرِم من دخول الأراضي السورية منذ عام 1973، من جرّاء حكمِ الإعدام الذي أصدره بحقه حافظ الأسد، ولم يجد في آخر المطاف إلّا أن يفرَّ هاربًا إلى أميركا، ثم بعد كلّ هذه السنين، أتيحَ له أن يلتقي برئيس سوريا الجديدة في واشنطن؟
ماذا يعني ذلك، إذا اكتملت صورةُ هذه اللحظة على الأقل؟
ألا يشي ذلك بأنّ تضحياتِ أبناءِ جيلِ السيد صفوح البرازي، وغيره من الأجيالِ السورية، والنضالاتِ التي عاشوها وخاضوها، تُعلن، ويُعلِنون معها بنشوةٍ وفرحٍ للعالم بأسره، أنّ كفاحهم ونضالهم وعذاباتهم لم تذهب سُدى؟
يا لهذا الإحساسِ الجليل، الذي أكثرُ مَن يعرف كُنهَه أولئك الذين بلغت أعمارُهم سنينَ عتيّة، أمثالُ السيّد صفوح البرازي، ممّن قضَوا حياتهم في الغربة، بعيدًا عن بيتِهم الأوّل، لكنّهم أخيرًا يجدون الطريقَ إليه وقد بات سالكًا ومفتوحًا، يناديهم: “تعالَوا!” فيُجيبون: “ها إنّنا إليك عائدون، يا وطنَنا الحبيبَ والأوّل.” ولا أعتقد أنّ أحدًا منهم بعد الآن سيخاف الموت كما كان يخافه من قبل، فقد تلاشى عنهم هاجسُ أن يكون قبرُهم في الغربة، في آخرِ لحظةٍ من لوحةِ حياتِهم.
المصدر: تلفزيون سوريا