
لا شطَط في وصف نسبة السوريين في بلدهم في كفاف 43% بأنها مُفزعةٌ بعض الشيء، سيّما وأن 42% لا تكفي دخولُهم لتغطية احتياجاتهم الأساسية، وأن 36% يعتمدون على تحويلاتٍ ماليةٍ من الخارج. ومقلقٌ أن 61% في بلد البركة والخيرات نادراً ما يتناولون اللحوم. … هذه من معطياتٍ شديدة الأهمية كشفت عنها أخيراً نتائج استطلاع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالتعاون مع المركز العربي للدراسات السورية. ولا يملك واحدُنا إلا الاتفاق مع الباحث جمعة حجازي في مطالعته الوافية في هذه النتائج، في هذا العدد من ملحق “سورية الجديدة”، في أن هذه المُعطيات (وأخرى متّصلة بها) تجعل أولوية الأولويات أمام صنّاع القرار تحسين مستوى المعيشة وتعزيز الأمن الغذائي، ليس فقط سياسةً اقتصادية، بل شرطاً أساسيّاً لتعزيز الاستقرار، وبناء الثقة بين الدولة والمجتمع. والقول هنا إن هذا المعطى بعيدٌ، غالباً، من مشاغل المثقفين والناشطين السياسيين السوريين، على ما هو ملحوظٌ في تعاليقهم وما يبثّونه من آراء واجتهادات، تنصرف إلى طبيعة السلطة الراهنة ومرجعياتها السلفية، وإلى نأيها عن توسيع المشاركة في صناعة القرار. ومع تمثينٍ واجبٍ لهذا الاهتمام بهذه القضايا وما ترتبط بها من تفاصيل، بل ومع ضرورة الاكتراث بها، إلا أن الالتفات إلى مدى قدرة هذه السلطة على معالجة هذه المسألة الاجتماعية/ السياسية، الباهظة الإلحاح، ليس واضحاً بالمقدار اللازم (أو الكافي؟). وربما فوجئ هؤلاء المثقفون بمستوى الرضا غير القليل بين عموم السوريين على هذه السلطة وأدائها الذي يمضي في البلاد إلى الأحسن، وبمستويات الثقة والأمل بمسارٍ أفضل ومستقبل أحسن، سيّما وأن هذا كله يتوازى مع ضغط الظرف المعيشي الصعب لدى فئاتٍ واسعةٍ بين السوريين. وما قد يفسّر هذه المفاجأة أن الوضع السوري عويصٌ وشديدُ التركيب والتعقيد، فيما تصوّرات نخبةٍ سوريةٍ عريضةٍ محسومةٌ، وتجريديّةٌ، وذهنيةٌ في الغالب. والكثير منها يصدُر عن مواقف مسبقةٍ وأفكارٍ مسطّرةٍ تنبني عليها الآراء والاجتهاد، من دون إجهاد الذهن بتقصّي الأمور بعمق، والتحرّي عن الأحوال الضاغطة. سيّما مع تغييب أن الحكم الراهن انتقالي، وشروط أي ظرفٍ انتقاليٍّ في أي تجربة سياسية في أي بلد، خصوصاً إذا مرّ بمحنةٍ من الطراز الأسدي المعلوم، مغايرةٌ، بداهةً، عن الشروط العامة في ظرفٍ ناجز، في الوسع أن تتحدّثَ عن اسحقاقاته، الديمقراطية والانتخابية وغيرهما، وأنتً مغتبطٌ بما تقول.
لا بأس من تكرار الإشارة هنا إلى ما أورده صاحب هذه السطور في افتتاحيةٍ سابقة، أن سورية في المنزلة الأولى بين بلدانٍ عربيةٍ عديدة تصدُر منها وعنها الأخبار المزيّفة، بنسبة 70% كما كشف موقع “مسبار” المتخصّص. والجديد، بل المدهش ربما، في نتائج الاستطلاع أن 80% من السوريين يروْن وسائل التواصل الاجتماعي مكاناً لاختراع الأخبار المزيّفة عن الآخرين. وربطاً بالمسألة أعلاه، واضحٌ أن منصّات التواصل هي الفضاء الأول (أو الرئيسي) الذي يزاول فيه النشطاء والمثقّفون إيصال أفكارهم وتصوّراتهم وانطباعاتهم إلى الجمهور العام، وهذا طبيعيٌّ. لكن من عظيم الأهمية أن الاستطلاع، فيما يعرّفنا أن 79% يروْن وسائل التواصل جيّدة، لأنها تتيح لهم التعبير عن أفكارهم، إلا أن 79% أيضاً (النسبة نفسها!) يعتبرونها مكاناً للتحريض، و78% يروْنها أصبحت مكاناً لترويج خطابٍ طائفي. ولا يستدعي هذا كله النأي عن الفضاء الرقمي، وإنما يتطلّب، بداهةً، عدم الاستسلام لغواياته، وعدم الجنوح إلى بناء المواقف والآراء على كثيرٍ مما ينكتب فيه ويحتاجُ إلى فحصٍ خاص، وتدقيق موثوق. وفي البدء والمختتم، لا يحسُن أن يقاس على تخويناتٍ يحترفها ناسٌ يواظبون على الحضور في “فيسبوك” (وغيره)، وعلى أخبارٍ مجتزأَة أو متسرّعة غير مدقّقة، ومبالغٍ بها، وزائفة، فضلاً عن الشعور بالإطمئنان لدعاوى أصحاب الأمزجة والأهواء الهوياتية، والجهوية، والطائفية.
تُراه قولاً متزيّداً إن قراءة الحال السورية بعد إعلان نتائج “المؤشّر العربي 2025” بشأن سورية، في دمشق، لها أن تقطع عن قراءاتٍ عديدةٍ قبله؟ … ليس الحماسُ للذي صِرنا نعرفه عن أمزجة السوريين وميولهم وتطلّعاتهم وتشخيصاتهم أوضاعَهم، في اللحظة الراهنة، وراء هذا القول، وإنما القناعة بأن مفاتيح أي نفاشٍ في الموضوعة السورية، شديدة التعقيد على ما يجب التذكير دائما، صارت مختلفةً، أو يجب أن تختلف.
المصدر: العربي الجديد