
هل يعيش المسؤولون المغاربة في العالم نفسه الذي نعيش فيه، أم أنهم عبروا إلى كوكبٍ آخر لا تصل إليه صور غزّة وهي تحترق، ولا تصل إليه صرخات الضحايا الذين يتساقطون يومياً تحت آلة الإبادة الجهنمية؟ ألم يروا المجازر البشعة في بث مباشر، ويسمعوا الصرخات المرتجفة من تحت الركام، ألم يصل إليهم صدى التهديدات النازية الصادرة عن “مجانين تل أبيب” وهم يتوعّدون بحرق الفلسطينيين وطرد من بقي منهم إلى ما وراء الشمس؟
حتى البيانات الخجولة والمرتبكة التي كانت تساوي بين الجلاد والضحية غابت عن قصاصات وكالة الأنباء الرسمية المغربية، وكأن الخارجية المغربية لم يعد لديها قاموس، أو أن قاموسها الدبلوماسي جرت مصادرته يوم التطبيع، ولم يبقَ سوى فراغ مربك وصمت مثقل بالعار. ألم تقولوا حين وقّعتم “اتفاقات أبراهام” المشؤومة إن التطبيع لن يكون على حساب فلسطين؟ ألم تُقسموا أن القضية ستبقى مقدّسة لا تقبل المساومة؟ فأين ذهبت القداسة؟ أين قسمُكم ووعودكم وتعهداتكم؟ وأين المبادئ التي رفعتموها شعاراً؟ كيف تمدّون أيديكم إلى قتلة الأطفال ولا تبصرون الدم يقطر من أصابعهم؟ أهو الخوف؟ أم التواطؤ؟ أم المصالح التي أعمت بصيرتكم حتى لم تعودوا تفرّقون بين الضحية والجلاد؟ أنسيتم صرخة الشاعر في وجه أميره عندما أراد العدو تتويجه بتاج الإمارة: “كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ..؟ أقلب الغريب كقلب أخيك؟! أعيناه عينا أخيك؟!”.
أيُّ معنىً لمساعدات إنسانية تُحسب لكم رمزياً إذا كانت سفن الأسلحة تمرّ من موانئكم نحو القاتل نفسه الذي يَقتل من تمدّون إليهم يد المساعدة؟ أي منطق عبثي يقبل هذه الازدواجية الفاضحة التي تجعل من علبة السردين أو كرتون الحليب أمام الكاميرات بديلاً عن موقف سياسي أخلاقي يليق بتاريخ بلد مثل المغرب وشعبه؟ مساعداتكم، على نبلها، صارت صورة تلفزيونية أكثر منها موقفاً، كراتين الحليب والسردين وعلب الزيت والسكّر تستعرضها كاميرات التلفزيون الرسمي كفتح عظيم، بينما الآلة العسكرية التي يدعمها تطبيعكُم تسحق الجياع تحت الركام، وفوق ذلك تنتظرون من الجائع، الذي ينتظر موته، أن يشكركم لأنه تلقّى علبة طعام قبل أن تعٌدمه آلة القتل التي تطبّعون معها؟ كيف تستطيعون أن تنظروا في عيني امرأة تطعم طفلها بحليبكم المجفّف، وأنتم تعلمون أن قاتلها، صديقكم الجديد سيذبحهما معاً، هي وطفلها بعد قليل؟ هل يكفي أن تلتقطوا صورة مع جائع قبل إعدامه، وهو يبتسم شكراً وامتنانا لنبلكم وكرمكم وإنسانيتكم لتغسلوا بها وجه بلدٍ بأكمله لطّختموه بعار تطبيعكم وخزي صمتكم؟
حتى البيانات الخجولة والمرتبكة التي كانت تساوي بين الجلاد والضحية غابت عن قصاصات وكالة الأنباء الرسمية المغربية
اجتمع في القاهرة وزراء الخارجية العرب قبل أيام، دان كلهم حرب الإبادة، وحده وزير خارجية المغرب ابتلع لسانه ولم ينبس بكلمة أمام محرقة القرن، وهو نفسُه الذي كان يتباهى بأن دبلوماسياً مغربياً في زمن ما من التطبيع “السّري” مع إسرائيل استعاد “بسطة” بائع متجوّل فلسطيني صادرها منه جنود الاحتلال، واعتبر الموقف إنجازاً عظيماً! اليوم، وقد ذُبح وأحرق وأعدم آلاف الأطفال والنساء والرجال، وأحرقت غزّة كلها، ودُمرت كل مدن القطاع وأحيائه ومخيّماته، وهدمت البيوت وصودرت الأراضي وجرفت الحقول في الضفة الغربية، ودنست الأماكن المقدسة في القدس والخليل، ماذا فعلت سفارة المغرب في تل أبيب؟ بل ماذا فعلتم للدفاع عن سفيركم في تل أبيب عندما طرده جنود الاحتلال من الضفة الغربية ورشقوه بالرصاص الحي؟ بقي صمتكم الدبلوماسي مرعباً، حتى كلمة “قلق”، أو”غضب”، أو مجرّد “تأفف” لم تصدر عنكم لتُنقذ ما تبقى من ماء وجهكم؟ بينما دول أوروبية، تعرّض ممثلوها للموقف نفسه، دانت وشجبت وأرغت وأزبدت، ومنها من سحبت سفراءها أو استدعت سفراء إسرائيل لديها، لتبلغهم أن السيل بلغ الزبى، فمتى تتحرّرون من خوفكم وتفطمون مع صمتكم الثقيل، وتعلنون أن صبركم قد نفد، وأن زُبْيَتكم قد غمرها سيل جرائم أصدقائكم؟!
استفيقوا من سباتكم، أو من تواطؤكم، قبل أن تُغلق صفحات التاريخ، وتكتب أسماؤكم في سجل العار الأبدي
حتى الدول الغربية، التي دعمت حرب الإبادة في بدايتها، بدأت تراجع مواقفها، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي هرول إلى تل أبيب عشية “طوفان الأقصى”، يقترح تحالفاً حربياً دولياً ضد المقاومة الفلسطينية، صار اليوم يحشُد لأكبر اعتراف دولي بدولة فلسطين. إسبانيا، جارتكم الشمالية، اتّخذت خطواتٍ جريئةً ومنعت تصدير الأسلحة وأغلقت سماءها وبرّها وبحرها في وجه كل رصاصةٍ قد تعبُر إلى يد القتلة في إسرائيل، واستدعت سفيرتها من تل أبيب وواجهت الفاشيين بشجاعة وصراحة في وضح النهار. حتى الإمارات، عرابة التطبيع التي جرتكم إليه، وجدت “الجرأة” لتهاجم الاحتلال ببيانات تدينهم وتهدّدهم، وحده المغرب دفن رأسه في صمته الاستراتيجي، كأن لا صوت ولا تاريخ ولا ذاكرة له، بل وكأن لا شعب له ينزل إلى الشوارع والساحات كل جمعة يهتف باسم فلسطين.
ليس المغرب دولة هامشية، تاريخه عريق، وعاهله يحمل أمانة رئاسة “لجنة القدس”، ونضال شعبه مشهود، ويكفيه أنه الوحيد بين الشعوب العربية الذي يعتبر فلسطين قضيته الوطنية، يخرج، منذ سنتين، أسبوعيا في مسيراتٍ ووقفات للتضامن مع الفلسطينيين في كل المدن والقرى، بما فيها تلك المهمّشة والمنسية، وبدون إذن رسمي، فالناس تعرف طريقها إلى ساحات النضال، لأن القضية محفورة في ذاكرتهم الجماعية. تعلموا من شعبكم، فهو خطّ دفاعكم الأخير، وصوته هو ما تبقى من شرفٍ تحفظون به تاريخ مواقف بلدكم. الإصرار على التطبيع مع عدوٍّ فاشيٍّ دمويٍّ لم يكن في أي يوم سياسة أو استراتيجية، بل هو إهانة لذاكرة وطنٍ صنع مواقفه وتاريخه وهو يردّد في وجه الزمن أن فلسطين مرآته. أنصتوا إلى رئيس وزراء إسبانيا، بيدرو سانشيز، حين قال إنه يريد لبلاده أن تكون في “الجانب الصحيح من التاريخ”، فلا تدفعوا ببلادكم نحو الجانب الأسود منه، مع حفنة من المجرمين النازيين والفاشيين الجدد. التاريخ لا يرحم، والشعوب لا تنسى، والضحايا لا تسامح، وشعبكم لن يغفر لكم. استفيقوا من سباتكم، أو من تواطؤكم، قبل أن تُغلق صفحات التاريخ، وتكتب أسماؤكم في سجل العار الأبدي.
المصدر: العربي الجديد