
في حوار أجراه مع “الإخبارية السورية” قبل يومين، فجّر وزير المالية السوري، محمد يسر برنية، مفاجأتين. الأولى، أن الدولة السورية موّلت زيادة الرواتب (بنسبة 200%) من مواردها الذاتية. والثانية أن الدولة ستنهي كلياً نظام الدعم الاجتماعي، العام المقبل.
وأما في المفاجأة الأولى، قال الوزير: “البعض يعتقد أننا حصلنا على أموال من الخارج لزيادة الرواتب”، لينفي ذلك، قبل أن يشير إلى أنه في الأيام المقبلة، “ربما تكون هناك منحة من قطر والسعودية لجزء بسيط من الرواتب”. وتحدث الوزير عن فائض في موازنة العام الجاري، أرجعه إلى النجاح في مكافحة الفساد وحسن إدارة المال العام، والذي أتاح لهم رفع الإيرادات الضريبية بصورة كبيرة. ووفق الوزير، فإن حصيلة الرسوم الجمركية التي يتم تحصيلها الآن، في شهر واحد، تعادل حصيلة سنة ونصف السنة تقريباً، في عهد النظام البائد. وهو مؤشر إيجابي، بالفعل. لكن قبل الاحتفاء به، نحتاج للتدقيق في التفاصيل التي غابت عن حديث الوزير. فهو رفض تقديم أي رقم، بخصوص أي معلومة أو خطة أفصح عنها، بذريعة أن الأرقام “لا تحضره الآن”. كما أنه لم يشر إلى مصدر الزيادة الكبيرة في الرسوم الجمركية. ونستطيع أن نخمّن، أن المصدر الرئيس لها، هو الرسوم الجمركية (بوسطي 2000 دولار)، على كل سيارة مستعملة دخلت إلى البلاد (أكثر من 100 ألف سيارة خلال 5 أشهر)، حتى صدور قرار وقف استيراد السيارات المستعملة، في نهاية حزيران الفائت.
ووسطياً، يمكن أن نتوقع توفير نحو 200 مليون دولار، كرسوم جمركية على السيارات المستعملة فقط. مع الإشارة إلى أن فتح باب الاستيراد على مصراعيه، شمل طيفاً واسعاً من السلع والمنتجات، خلال 6 أشهر. ويمكن قياساً على إعلان مؤسسة التأمينات الاجتماعية، والذي أفاد بأن الكتلة الإجمالية لزيادة الرواتب، لنحو نصف مليون متقاعد، بلغت 423 مليار ليرة سورية (نحو 38 مليون دولار)، أن نقدّر الكلفة الإجمالية لزيادة الرواتب لمجمل موظفي القطاع العام (نحو مليون موظف ونصف المليون متقاعد)، بحوالي 120 مليون دولار. وهو رقم متاح لخزينة الدولة من الرسوم الجمركية المحصّلة من السيارات المستعملة. وهو إنجاز، لكنه غير مستدام. ففتح باب الاستيراد على مصراعيه، كلفته على المدى المتوسط (لا البعيد)، تدمير القطاعات الإنتاجية في البلاد. وهو ما بدأت السلطات المعنية تتلافى الذهاب إلى خواتيمه الخطرة، عبر تقييد الاستيراد لبعض السلع (الزراعية بصورة خصوصاً). وهكذا، فإن الرسوم الجمركية على المواد المستوردة، ليست مصدراً مستداماً لتمويل خزينة الدولة، بالنسبة الراهنة نفسها، على الأقل. وسنتوقع تراجع دور هذا المصدر في تمويل الخزينة، في الأشهر المقبلة، بعد وقف استيراد السيارات المستعملة.
عند النقطة الأخيرة، ننتقل إلى مكمن الإشكالية في المفاجأة الأولى التي فجّرها الوزير. فهو قال “أنا متأكد اليوم.. أننا مع نجاحنا في مكافحة الفساد لا نحتاج موارد مالية من الخارج”. تتقاطع هذه الجملة التي توحي بكثير من “الرغبوية”، مع جملة قالها الرئيس أحمد الشرع في حفلة إطلاق صندوق التنمية السوري، حينما قال “نقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة مرحلة البناء والإعمار التي نكتب فيها تاريخ سوريا الجديد بأيدينا وأموالنا وجهدنا”.
وإن قرأنا هاتين الجملتين، في ضوء المعلومة التي فجّرها الوزير، بأن منحة قطر والسعودية لتمويل جانب من رواتب موظفي القطاع العام، المُعلن عنها منذ مطلع حزيران الفائت، لم تبصر النور بعد، نجد أننا أمام استنتاج أولي، بأن هذا التأخر في تقديم المنحة، يتعلق باعتبارات سياسية. وأن حديث الوزير، ورئيس الجمهورية، عن قدرتنا على بناء البلاد من دون الحاجة لموارد خارجية، بالتزامن مع تعبئة حكومية كبيرة لاستجرار المنح من رجال أعمال سوريين، لصالح صناديق التنمية السورية في المحافظات، قد يعني أن هناك عقدة سياسية ما، تحتاج للتفكيك، بين السلطة في دمشق، وبين داعمين خليجيين لها. وأن السلطة في دمشق تحاول إرسال رسائل “معاندة” لهؤلاء الداعمين. وهو مؤشر، إن كان دقيقاً، فسيكون في غاية الخطورة. لأن سوريا، بعيدة جداً من امتلاك موارد ذاتية كفيلة بتمويل حركة إعادة إعمار، بالصورة المأمولة. ونأمل ألا تكون قراءتنا هذه، دقيقة. لكننا نأمل في الوقت نفسه، ألا تذهب الحكومة الانتقالية في دمشق باتجاه حالة من العناد مع داعمين خارجيين لها، على غرار ما كان يفعل رأس النظام البائد، بشار الأسد، في السنوات الأخيرة من حكمه، حينما كانت تُقدّم له عروض إعادة تأهيل خليجية وإقليمية، مقابل تنازلات أو تسويات سياسية، رفضها جميعاً، كي يُبقي كل صلاحيات الحكم، محصورة في يده، وحده.
وبالانتقال إلى المفاجأة الثانية التي فجّرها الوزير، والمتعلّقة بوقف الدعم الحكومي للسوريين، تماماً، العام القادم. فهو أشار بوضوح إلى أن الدعم لن يُرفع فقط عن الخبز والكهرباء والوقود، بل سيُرفع أيضاً عن التعليم والصحة، مع الاتجاه نحو الدعم الموجّه، لصالح الفئات محدودة الدخل والفقيرة. وفي النقطة الأخيرة، تحدث الوزير عن نيتهم إطلاق برنامج وطني لمكافحة الفقر، سيتم الرهان فيه، على تقديم إعفاءات ضريبية للتجار ورجال الأعمال مقابل انخراطهم في مشاريع دعم مجتمعي في بيئاتهم المحلية. إلى جانب إصلاح إدارة الوقف ذات الأصول الهائلة في سوريا. لكن النقطة الإشكالية الأهم في حديث الوزير، كانت إشارته إلى أن التعليم المجاني والصحة المجانية، ستكون للفقراء والمستحقين. وحينما سأله محاوره عن المعيار الذي ستحدد الدولة بموجبه، “الفقير”، تحدث عن قاعدة بيانات كاملة يتم العمل عليها. وهي السياسة ذاتها، بالحرف، التي كان النظام البائد يشتغل عليها، في سنواته الأخيرة، والتي ترافقت مع انهيار معيشي غير مسبوق في حياة السوريين.
ونحن نتفق مع الوزير على اهتراء منظومة الدعم الاجتماعي، وكلفتها المرتفعة على خزينة الدولة. لكن في بلد، يشكل فقراؤه الغالبية، باقتصاد مدمّر، وفي ظل مؤشرات غير مطمئنة بأنه سيكون هناك دعم خارجي قريب لعملية إعادة الإعمار، في الوقت ذاته، يتم دفع الناس نحو اقتصاد سوق منفلت من أي ضوابط، يصبح فيه سعر ربطة الخبز أكثر من 8000 ليرة (كلفة الربطة وفق تصريحات رسمية)، وتصبح فيه الطبابة والتعليم، برسوم، إلا لمن يستطيع إثبات فقره، تلك وصفة مخيفة لمستقبل معيشة السوريين. وشروط تجاوز هكذا نقلة خطرة، هي في رفع أجور السوريين بصورة قياسية، ربما يجب أن تصل إلى نحو 1000%، كي يصبح من المتاح تمرير ذلك، من دون أن تحصل خضّة نوعية في الاستقرار المجتمعي.
في الختام، لا يجوز أن نبخس هذه الحكومة حقها بالإشارة إلى نجاحها في تمويل زيادة الرواتب الأخيرة من دون التسبب في قفزات نوعية موازية في الأسعار. إلى جانب حديث الوزير عن تصفير الضرائب تماماً، لأية مشاريع استثمارية زراعية أو تلك التي تقام في محافظات تعاني مشكلات تنموية، كدرعا والسويداء والرقة. لكن في الوقت نفسه، نعتقد أن من الواجب التريث في الذهاب أبعد، نحو تحرير السلع، وإلغاء الدعم، قبل ربط ذلك بتعديل نوعي لسلّم الأجور، يتيح للسوريين استيعاب التغيرات الكبيرة المقبلة في تكاليف حياتهم.
المصدر: المدن