
مرعب للغاية، حجم التطابق بين مؤشرات اندلاع حرب أهلية، في بلد ما، وفق ما ذهبت إليه الباحثة الأميركية باربرا والتر، في كتابها الصادر قبل 3 سنوات، وبين ما نعيشه اليوم، في سوريا. وفي حين أرادت أستاذة العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا، التحذير في كتابها “كيف تبدأ الحروب الأهلية وكيف يمكن إيقافها”، من أن بلادها، الولايات المتحدة الأميركية، قد تكون معرّضة بشدة للانجرار نحو حرب أهلية ثانية، نجد أن المؤشرات التي اعتمدتها في توصيف ذلك، متوافرة بكثافة في المشهد السوري، اليوم.
أحد أهم المؤشرات التي تعتمدها والتر في ذلك، توصيف “الأنوقراطية” (anocracy). وهو توصيف يستخدم لأنظمة الحكم في بلدان تمر في مرحلة وسط بين الديمقراطية والسلطوية، بالاتجاهين. ففي مرحلة الانتقال من نظام سلطوي إلى نظام ديمقراطي، أو بالعكس، نصبح في حالة “الأنوقراطية”. وهي الحالة الأكثر ارتباطاً بالحروب الأهلية. فاحتمالية نشوب الحروب الأهلية أو عدم الاستقرار السياسي في ظل الأنظمة الأنوقراطية، هو ضعف احتماليتها في ظل الأنظمة السلطوية، وثلاثة أضعاف احتماليتها في ظل الأنظمة الديمقراطية.
في الأنوقراطية، تكون هناك مؤشرات ديمقراطية جزئية، إذ يحظى المواطن ببعض الحقوق الديمقراطية، لكنه في الوقت نفسه، يقبع تحت حكم يحمل بعض صفات السلطوية (الاستبداد). إذ لا يخضع نظام الحكم هذا، لقدر كافٍ من المساءلة. وهنا لدينا مفارقة. فالأنظمة السلطوية القوية، تملك القدرة في معظم الأحيان على احتواء التمرد والاحتجاج، حتى النماذج الدموية منه. كذلك، الأنظمة الديمقراطية القوية، تملك بدورها القدرة على احتواء التمرد السلمي. في حين نجد أن السلطة في الحالة “الأنوقراطية” تكون أقل قدرة وكفاءة، على احتواء النوعين من التمرد أو الاحتجاج. نظراً لكونها تمر أساساً بحالة انتقالية. وينطبق هذا التوصيف بصورة أكبر على حالات الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية. لكنه في الوقت نفسه، وارد في حالات محدودة من الانتقال العكسي من الديمقراطية إلى السلطوية. وهو الجانب الذي ركزت عليه والتر في تجربة بلادها، الولايات المتحدة، في ظل حكم الرئيس دونالد ترمب (ولايته الأولى). لكن بالإسقاط على الحالة السورية، اليوم، والتي تمر فيها البلاد بمرحلة انتقالية من سلطوية مفرطة إلى ديمقراطية مأمولة، فإننا بلا شك، في مرحلة “الأنوقراطية”.
في الأنوقراطية، تكون هناك مؤشرات ديمقراطية جزئية، إذ يحظى المواطن ببعض الحقوق الديمقراطية، لكنه في الوقت نفسه، يقبع تحت حكم يحمل بعض صفات السلطوية (الاستبداد). إذ لا يخضع نظام الحكم هذا، لقدر كافٍ من المساءلة
المؤشر الثاني الذي يجعل شبح الحرب الأهلية أكثر وضوحاً، هو ما تصفه والتر بـ (Factionalism)، والذي يمكن ترجمته بـ “التحزّب” أو “الفئوية”. وتوضح والتر أن هذا “التحزّب” يتجسد في فصائل أو أحزاب سياسية قوامها إثني أو عرقي أو ديني، بصورة كبيرة. أبرز ما يميّز هذه الفصائل أو الأحزاب، هو سعيها لإقصاء الآخر عن سدّة الحكم، كطور متقدم من استخدام “الهوية” في السياسة. ووفق والتر، تنمو هذه التحزبات بصورة خاصة حينما تشعر مجموعة ما بخطر ناجم عن تزعزع الحكم الخاضع لقبضتها. كما أنها تتمحور حول شخصيات أو رموز بعينها، من دون أن تقدّم سياسة واضحة. وإذا توافر هذا الصنف من “التحزّب” مع حالة “الأنوقراطية”، تتضاعف احتمالية نشوب حرب أهلية، بشكل كبير.
الملفت أن والتر، التي استعرضت عدداً كبيراً من تجارب الشعوب، لتوضيح مؤشراتها، استشهدت بتجربة الفصائل الثورية في سوريا، ما بعد الـ 2011. وكانت منحازة بصورة ما. إذ وصّفت النهج السياسي لهذه الفصائل بأنه كان إقصائياً، ولم يقدّم سياسة واضحة، وتمحور حول أسس طائفية ضيقة. وقد تسبب ذلك، بورود بعض المراجعات التي انتقدت منهجها البحثي، ورأت أنه منحاز أو لا يتمتع بالاطلاع الكافي على بعض التجارب، خاصة في الشرق الأوسط. لكن رغم ذلك، تبقى التجارب العالمية العديدة التي استندت إليها والتر، كفيلة بالركون بصورة كبيرة إلى مؤشراتها التي حال توافرها في حالة ما، تصبح مؤهلة بشدة لحرب أهلية. من ذلك مثلاً، أن “التحزّب” الذي أشارت إليه، يرتبط عادةً بمعضلة الأمن، بين الشرائح المجتمعية. أي أن مكونات المجتمع تخشى من بعضها، فتتمترس حول هوياتها ما دون الوطنية. وفي كثير من الأحيان، يكون سبب ذلك، سوء ظن كل طرف بالآخر، من دون أن يكون سوء الظن هذا، موضوعياً، بالفعل.
المؤشر الثالث لدى والتر، ويتفق معها فيه، كثير من الباحثين في دراسات النزاعات الأهلية، أن البلد الذي يشهد حرباً أهلية يكون عرضة للوقوع في حرب أهلية ثانية. أو بالأحرى، جولة ثانية من الحرب الأهلية. ذلك أنه في معظم الحالات، لا يتم معالجة المظالم الناجمة عن الحرب الأولى، أو أن خاتمتها تتسبب بخلق مظالم لفئة جديدة. وفي سوريا، بعد الـ 2011، يمكن الإقرار، رغم رفض كثير من المنظّرين المؤيدين للثورة، أن بعض أعراض الحرب الأهلية كانت متوافرة بالفعل. أي أن سوريا، فعلياً، عاشت تجربة حرب أهلية أولى، بعد الـ 2011. مما يعني، أننا قد نكون معرضين لطور جديد من “الحرب الأهلية”.
أما المؤشر الرابع، لدى والتر، فهو تفاقم خطاب الكراهية في وسائل التواصل الاجتماعي. وتربط الباحثة الأميركية بين تراجع الديمقراطية في العالم عموماً، وبين انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، وتلفت إلى أن هذه الأخيرة كانت من أهم محركات الحروب الأهلية في العقدين الأخيرين. إذ وفّرت لقيادات “التحزّب” منصة للتعبئة والتحريض. كما ووفرت بيئة ملائمة لمنظّري المؤامرة، والديماغوجيين، ومناهضي الديمقراطية، ولتداول المعلومات الخاطئة أو المضللة، والأهم، لخطاب الكراهية تجاه الآخر. مثال ذلك، اعتراف منصة “فيس بوك” عام 2018، بأنها أسهمت في العنف المجتمعي في ميانمار. واليوم، نعيش في سوريا انفلاتاً غير مسبوق لخطاب الكراهية وتسويق نظريات المؤامرة والتجييش تجاه المكونات السورية المختلفة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وهكذا، فإن احتمالية اندلاع حرب أهلية في سوريا، مرتفعة للغاية، اليوم، وفق مؤشرات والتر. وهي حرب قد تكون أشد وطأة بمراحل، مما عشناه بعد الـ 2011. لأنه ببساطة، كان هناك نظام سلطوي واضح المعالم، كان الصراع يتمحور حوله، فيما اليوم، نحن أمام مزاج شعبوي مرتفع للغاية، يجعل الخطر في أقصاه. أما كيف يمكن تجنب هكذا احتمال في سوريا؟ تعرض والتر عدداً من الاستراتيجيات. من ذلك، ضرورة المساومة بين قادة الأطراف المتناحرة، من أجل احتواء التصعيد. ويجب التعامل بجدية مع المظالم التي تشكل وقوداً يستخدمه المحرّضون أو قادة “التحزّبات”. كذلك، أن تقف أجهزة إنفاذ القانون على مسافة واحدة من مختلف المواطنين. ومن الضروري إتاحة الحرية للأفراد، للتعبير والمشاركة القانونية. وعلى الحكومة أن ترفع كفاءتها، وأن تحسّن من مستوى خدماتها المدنية.
في حالتنا بسوريا اليوم. تبدو استراتيجيات منع الانزلاق نحو حرب أهلية، جلية. لكن يجب أولاً الإقرار بأننا نسير بهذا الاتجاه، من جانب النخب المؤثرة، ومن جانب صنّاع القرار في دمشق، ومن جانب قيادات سلطات الأمر الواقع المنافسة. يجب الإقرار بدايةً، أن الخطر جدّي، وأن الأمور إن انفلتت، فلن يستطيع أحد من هؤلاء، تحقيق المكاسب المرجوة لديه، إذ سيذهبوا بالمتحزبين الذين نجحوا في تجييشهم وراءهم، نحو هاوية، لا يُعرف قرارها. هو نداء إلى النخب والقيادات، أن تَعِي الخطر قبل فوات الأوان. وأن يتم وقف حملات التجييش المتبادلة، الآن، وفوراً. وأن يُتاح هامش السياسة، بصورة مباشرة.
المصدر: تلفزيون سوريا