حرب الصور النمطية القاتلة بين السوريين       

      د. طلال المصطفى

لم يعد خافيًا على أحد أن أحد أخطر تداعيات الصراع السوري منذ عام 2011 هو الانقسام المجتمعي السوري الحاد الذي وصل في مرات عديدة إلى حدود الاقتتال الداخلي بين السوريين أنفسهم، كان آخرها  ما حدث في محافظة السويداء من اقتتال  بين مجموعات سورية محلية بعضها مدني وبعضها الآخر مسلح، تختلف في الرؤية السياسية والانتماء العقائدي أو المرجعية الدينية والاجتماعية. وإذا كان هذا الاقتتال قد اتخذ طابعًا جغرافيًا محليًا محدودًا، إلا أن دلالاته  وصلت الى الجغرافيا السورية كلها، لتكشف عن عمق الانهيار في الثقافة السورية الجامعة، و بروز ثقافة الكراهية بين السوريين.

ترافقت هذه المواجهات العسكرية ، كما في معظم أشكال الخلافات السورية – السورية  الى حملات من الصور النمطية السلبية المتبادلة بين مكونات المجتمع السوري الواحد، وغالبًا ما غذّتها وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام محلية أو خارجية، تخدم أجندات سياسية معادية لوحدة واستقرار سوريا.

هذا التبادل للصور النمطية عمق فجوة الثقة بين المكونات السورية، ودفع باتجاه احتمالات الانقسام المجتمعي والسياسي الدائم، بل وربما يحول دون بناء مشروع سوري وطني جامع مستقبلاً، لا سيما في ظل غياب دور فاعل للدولة الوليدة كضامن للتعددية  الثقافية والسياسية والعدالة.

الصور النمطية كأداة تحريض

العديد من الدراسات الأكاديمية التي تصدت لموضوع الصور النمطية، أجمعت على أنها عبارة عن تعميمات مؤسسة على الشائعات والآراء التي لا تستند الى معايير علمية ومنطقية، ولا حتى لها وجود في الواقع المعاش. بل بعض منها تبنى على أوهام أو معلومات غير دقيقة، تكونت لدى الناس من خلال تجارب فردية سابقة أو عن طريق التلقي من وسائل الاتصال والاعلام.

بناء على هذه الصور النمطية تنحاز مجموعات من الاشخاص  ضد مجموعات أخرى  ويصنعون أحكامهم المسبقة من دون الاعتماد على دراسات أو حقائق من أرض الواقع المعيش.

في السياق السوري، أصبحت الصور النمطية وسيلة تبرير وتحريض في آنٍ معًا؛ فكل طرف سوري يحمّل الآخر مسؤولية الاقتتال وينظر إليه كـ”الآخر” العدو  أو المتآمر أو الجاهل أو الطائفي أو المتخاذل أو حتى كـ”العميل للخارج “. وهنا تكمن خطورة هذه الصور النمطية ، إذ تتحول من مجرد أحكام مسبقة إلى أسس ثقافية لبناء مواقف سياسية وعداوات أهلية قد تطول ، وربما تمهّد لاقتتال أكثر دمويًا من السابق في المستقبل.

العديد من الدراسات الأكاديمية التي تصدت لموضوع الصور النمطية، أجمعت على أنها عبارة عن تعميمات مؤسسة على الشائعات والآراء التي لا تستند الى معايير علمية ومنطقية، ولا حتى لها وجود في الواقع المعيش.

الصور النمطية ليست فقط انعكاسًا للاختلاف السياسي، بل هي صناعة رمزية محمّلة بالأحكام والاتهامات الجاهزة، تُنتجها سرديات متضادة تتبناها كل مجموعة لتبرير مواقعها ومواقفها السياسية أو السلوكية ضد الأخريات. فالمجموعات المعارضة  لسلطة الدولة الجديدة  تنظر إلى الجماعات  المؤيدة والداعمة  بوصفها “رمزًا للتخاذل أو الموالاة او التطرف”،  وفي الوقت نفسه تنظر الجماعات المؤيدة المعارضة بأنها “مصدّر للفوضى أو الطائفية أو الارتهان الخارجي”.

من التنوع إلى التقوقع

لقد أسهم تباين التجارب السياسية والاجتماعية لمناطق سورية المختلفة خلال حرب النظام السابق في إعادة إنتاج سرديات محلية ضيقة تعزز الانكفاء على الذات ورفض الآخر. ففي السويداء مثلًا، ظهرت سرديات تنطلق من “الخصوصية الدينية” أو “الهوية التاريخية” أو “الحياد السياسي”، في حين لدى مناطق أخرى برز الخطاب الجهادي أو الولائي أو العشائري. هذا التعدد، الذي كان يمكن أن يكون غنى اجتماعيا وثقافيا ، تحوّل إلى انقسامات وتخوين ورفض متبادل، يغذّيه غياب الهوية السورية الجامعة واحتكار السلاح والسلطة من قبل أمراء حرب محليين أو جهات خارجية.

لقد  بدأ التنوع السوري، الذي كان يشكل عنصر ثراء حضاري، يتحوّل إلى ذريعة للتنافر والتنازع. إلى حد الاقتتال فقد أصبح الانتماء المناطقي أو الطائفي أو السياسي مدخلًا للحكم على الآخر، لا بوصفه فردًا مواطنًا، بل بوصفه ممثلًا لتهديد ما يجب تحييده أو إقصاؤه.

وسائل التواصل.. وقود التناحر

تشكّل وسائل التواصل الاجتماعي اليوم مسرحًا واسعًا لتداول هذه الصور النمطية، إذ تنتشر مقاطع فيديو وتعليقات ومنشورات تتضمن اتهامات متبادلة، تسخر من القيم أو الخصائص الثقافية أو الدينية أو السلوكية للمجموعات  الأخرى. هذه المواد الاعلامية  لا تنقل فقط رأيًا، بل تخلق واقعًا متخيّلًا يرسّخ الانقسام المجتمعي السوري، ويؤسس لحالة من العداء العابر للحدود الجغرافية المحلية إلى السورية كلها.

في هذا السياق، تتدخل بعض وسائل الإعلام، خاصة الممولة من أطراف دولية أو إقليمية، في تأطير الصراع السوري بوصفه طائفيًا أو مناطقيًا، لا سياسيًا أو اجتماعيًا، ما يسهم في إعادة إنتاج الصور النمطية والاصطفافات الخطرة. بل أصبح تداول هذه الصور جزءًا من معارك النفوذ على الرأي العام السوري و الدولي، حيث يتم تصوير كل جماعة على أنها الخطر أو “العقبة” أمام الحل أو السلام أو التغيير.

جذور اجتماعية ونفسية

الصور النمطية السلبية المتبادلة ليست مجرّد انعكاس لخطابات سياسية وثقافية طارئة، بل تعود في جزء منها إلى تراكمات تاريخية واجتماعية سابقة. فالنظام السوري الأسدي البائد وعلى مدى عقود، أسهم في تفكيك مفهوم المواطنة السورية الجامعة، وعمّق التمايزات المناطقية والطائفية والاجتماعية في سوريا، وشيطن أي خطاب ينادي بالعدالة أو التغيير أو المشاركة. وقد أسهم هذا المناخ في ترسيخ صور نمطية سلبية بين مكونات المجتمع السوري، سرعان ما تحوّلت خلال الحرب إلى أدوات للتحريض والفرز والعداوة.

إضافة إلى ذلك، تسببت التحولات النفسية العميقة الناتجة عن العنف، والنزوح، والاعتقال، والفقد، والتهميش، في بروز مشاعر كراهية وخوف وريبة متبادلة بين السوريين، غالبًا ما تبحث عن تفسير جاهز لما حدث، فتجد في الصور النمطية ملاذًا “ذهنيًا” سريعًا ومريحًا لتبرير الموقف.

نحو تفكيك الصور النمطية

إن إزالة هذه الصور النمطية أو التخفيف من آثارها يتطلب جهدًا جماعيًا سوريًا متكاملًا، يشمل الحقل السياسي والمدني والثقافي والتربوي. لا يمكن لأي مشروع سوري وطني جامع أن ينهض من دون مواجهة هذه الرواسب النفسية والثقافية التي تفخخ أي محاولة للتعايش المشترك أو بناء الثقة المتبادلة بين السوريين. فالمصالحة الحقيقية لا تبدأ بالمؤتمرات السياسية فقط، بل بـتفكيك الصور النمطية المتبادلة التي تراكمت خلال سنوات الحرب والانقسام.

ومن الضروري اليوم تفكيك خطاب الضحية الوحيدة والمطلقة الذي تتبناه بعض الجماعات المحلية السورية، وتحوله إلى مبرر لرفض الحوار أو الانخراط في مشروع وطني جامع. فكل السوريين ضحايا بدرجة ما، لكن استثمار هذه الضحية الوحيدة  لتبرير الإقصاء أو التعالي أو الانعزال، يعني إعادة إنتاج المأساة بأشكال جديدة.

كما يجب إعادة الاعتبار لفكرة المواطنة بوصفها القاعدة الوحيدة لعقد اجتماعي سوري جديد، تتساوى فيه الحقوق والواجبات بين السوريين كافة بغض النظر عن الدين أو الطائفة أو المنطقة أو الانتماء السياسي. فلا مستقبل لسوريا دون مواطنة حقيقية، تعيد للناس ثقتهم بأنهم جزء من كيان واحد، على اختلاف انتماءاتهم.

إعادة بناء سورية لا تبدأ من الإعمار المادي، بل من بناء الثقافة السورية الجامعة، وتهديم جدران الصور النمطية القاتلة، التي تفصل السوري عن أخيه السوري.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى