
واضح أن السلطة السورية الجديدة اعتمدت في أعمالها العسكرية ما بات يُعرف بمفهوم “الفزعة”، وتبنتّها أسلوباً لحل المشكلات الأمنية الكبيرة والمتكرّرة مع الأقليات، والتي تعجز عن منع تكرارها أو انتقالها بين منطقة وأخرى. وإزاء اعتمادها هذا الأسلوب مرّات، يمكن البتّ بأن عقلية الفزعة باتت سياسةً لدى الحكم الجديد. ويمكن التيقّن من ذلك أيضاً، بناءً على عبارات الشكر والعرفان بالجميل التي وجّهها الرئيس أحمد الشرع إلى المشاركين فيها في المرّات التي لجأ فيها للفزعة؛ مرّة في الساحل السوري، ومرّتين في السويداء أخيراً، على الرغم من خطورة هذه السياسة وتبعاتها، على الدولة نفسها، وعلى بُنى المجتمع السوري، من جهة، وعلى دول الجوار، من جهة أخرى وبأشكال مختلفة.
ولا بد لمراقب هذه السياسة أن يخمّن أن وراء اعتماد مفهوم الفزعة سياسةً غاياتٍ تعرفها السلطة. كما قد يردّها بعضهم إلى عدم جهوزية الجيش السوري المأمول، علاوة على القدرة على التنصّل من انتهاكات قد تُقترف خلال تلك الفزعات، فلا يُعرف مرتكبوها وتضيع المسؤوليات وتصعب المحاسبة. وبغض النظر عما يطرحه التعمُّد في تكرار الاعتماد على هذا الأسلوب، إلا أنه يُعدُّ مؤشّراً خطيراً يدل على عدم قدرة الدولة بعدُ على بناء المؤسّسة العسكرية الجامعة، والمؤسسات المدنية لإدارة الدولة بالطريقة الأنسب، بعيداً عن منطق استقواء إحدى مناطق البلاد والمجموعات فيها على منطقة ومجموعات أخرى. ومن المستغرب استمرار هذا لأنه يأتي بعد ثمانية أشهر من إسقاط النظام السابق وهروب رئيسه بشّار الأسد خارج البلاد، وحصول سلطة الشرع على دعم دولي وعربي منقطع النظير، يمكِّنُها من إعادة بناء مؤسساتها ومراجعة أخطاء المرحلة السابقة، خصوصاً بعد حوادث الساحل التي لامها كثيرون على طريقة إدارتها.
وتكمن الخطورة في ما يمكن أن تشكله هذه السياسة على نسيج المجتمع السوري، فبينما يمكن لجيش نظامي أن يكون أكثر انضباطاً ومسؤولية في التعامل مع أبناء أي منطقة ينفذ فيها عملية عسكرية، سواء لضبط مطلوبين أو وقف نزاع مسلح محدود، لا يمكن ضبط مجموعات رديفة أو غير نظامية، من التي أشار إليها تقرير “اللجنة الوطنية للتحقيق وتقصّي الحقائق في حوادث الساحل السوري” الذي أعلنته الحكومة، قبل أيام، وسمّاها “مجموعات مسلحة” و”مجاميع الفزعات الشعبية” التي اعترف بأنها اندفعت بشكل عشوائي إلى الساحل، ما أدى إلى حدوث انتهاكات. وبينما يؤدّي هذا الأسلوب إلى زيادة التحريض وخطاب الكراهية، وتبرير العنف والقتل والأعمال غير المنضبطة، فإنه، فضلاً عن تخريبه نسيج المجتمع السوري الهش، يؤدّي إلى فقدان كثيرين الثقة بالدولة. كذلك قد يودّي إلى إضعاف دور الدولة المركزية عبر تقوية مجموعات الأطراف غير المنضبطة، وانكسار صورتها ضامنةً وحدة البلاد والمجتمع وتعزيز هويته الوطنية الجامعة.
يمكن للعراق أن يقلق، بسبب قدرة الحكم في دمشق على تحريك هذا العدد الهائل من القوات بسرعة وسلاسة، ما يشكل تهديداً لحدوده إذا ما حصل أي توتّرٍ سياسي بين الدولتين
ولا تتوقف خطورة هذه السياسة وتبعاتها عند حدود البلاد، بل تتجاوزها لتطاول دول الإقليم، خصوصاً لبنان والأردن والعراق التي لديها عشائرها، وبعضها يعاني من بيئة عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي. كذلك إن ميزة التنوّعين، الطائفي والعشائري الواسع، قد يحاول بعضهم استغلالها سلبياً، سواء من الخارج أو من أي طرف داخلي، فتصبح نذيراً بوقوع انفجارٍ مجتمعي خطير، خصوصاً في العراق ولبنان. لذلك، تصبح التجربة السورية قابلة للنسخ والتطبيق في هذه البلدان، إذا استمرّت السهولة التي اعتُمِدت في اتباعها، واستسهال الدعوة إلى الفزعات التي حشدت العشائر، وغيرهم من أبناء المجتمع في المناطق السورية كافة.
ولأن لبعض العشائر السورية امتداداً في دول الجوار، فإن أي فزعةٍ مستقبليةٍ من هذا النوع قد تؤدّي إلى انتقال عَدْواها إلى لبنان والأردن اللذين يتشابهان بالتنوع العشائري والطائفي مع سورية. وفي هذا السياق، سُجِّلَت حوادث اعتداء وتوترات، كذلك خرجت دعوات التحريض على نطاق ليس قليلاً في مناطق لبنانية على خلفية المعارك في السويداء. لذلك، يمكن لتكرار هذه الأعمال أن يزيد من التضامن بين الدروز في البلدين، وبالتالي عودة آفة الاستقطاب الطائفي بين اللبنانيين، ما يجعل خطر اندلاع نزاعات على خلفية طائفية واردة في أي لحظة. أما الأردن الذي فيه أقلية درزية، فتشكّل بعض العشائر فيه امتداداً للعشائر السورية، لذلك يمكن أن تنتقل التوترات بين العشائر والدروز في سورية، إذا ما تكرّرت، إلى داخل الأردن. ويمكن للعراق أن يقلق، بسبب قدرة الحكم في دمشق على تحريك هذا العدد الهائل من القوات بسرعة وسلاسة، ما يشكل تهديداً لحدوده إذا ما حصل أي توتّرٍ سياسي بين الدولتين.
احتمال تكرار سيناريو فزعة العشائر نفسه مع السويداء مرّة أخرى، ومع الأكراد في الشمال والشمال الشرقي من البلاد يمكن أن يبقى قائماً
لذلك، قد تدفع أي حوادث من نوع التوترات الطائفية التي يمكن أن تعقبها فزعات تشارك فيها العشائر من جديد، أو حتى مجموعات غير منضبطة، الدول العربية المحيطة بسورية إلى المسارعة إلى إغلاق الحدود، وفي مراحل متقدّمة إلى قطع العلاقات معها إذا ما تأثرت مباشرة بها. إذ إن هذه الدول التي عانت ما عانته 14 سنة من حكم بشّار الأسد، وخصوصاً من مشكلاتٍ بدأت مع توافد أعداد ضخمة من اللاجئين إليها، ما شكل عبئاً عليها، ولم تنتهِ مع تهريب المخدّرات إليها، أو جعلها ممرّاً لعمليات تهريبه، لا يمكن لها أن تتحمّل توتراتٍ جديدة تؤثر في أمنها، وفي الأمن المجتمعي لأبنائها.
أما وقد كرّرت السلطة في السويداء السيناريو الذي اتبعته في الساحل قبل أشهر، على الرغم من تحذيراتٍ من تكراره، فإن احتمال تكرار السيناريو نفسه مع السويداء مرّة أخرى، ومع الأكراد في الشمال والشمال الشرقي من البلاد يمكن أن يبقى قائماً. ففي ظل حملات التحريض والكراهية التي لم تتوقف ضد الأكراد، وتصاعدت بالتزامن مع معارك السويداء التي سبقتها حملات تحريض مشابهة، يُخشى أن تقع سلطة دمشق في الفخ مرّة أخرى. حينها ستنأى دول كثيرة، ليس في الجوار السوري فحسب، بل في مناطق أخرى، عن المسألة السورية، وسيبقى السوريون يعانون خيباتٍ ضحّوا كثيراً حتى ينقطع توالدُها والمآسي التي تنتجها، لكنهم فشلوا.
المصدر: العربي الجديد