
ألهذه الدرجة حَكَم العالم على نفسه بالعجر والموت، فلم يعد قادراً حتّى على تمكين مدنيين عزّل من قطعة خبز وشربة ماء؟ ألم يدرك قادة القوى الكُبرى أنهم يتحمّلون مسؤوليةً أخلاقيةً وسياسيةً تجاه ما يحدث في غزّة من قتل وتدمير ممنهجَين، وعقاب جماعي وتجويع مروّع وحصار غير مسبوق؟ يعلم هؤلاء جيّداً أنهم السند الفعلي والداعم الرسمي والرئيس لإسرائيل، وهم الذين يُغدقون عليها المال والسلاح، ويحمونها من أيّ إجراءات عقابية يمكن أن تحدّ من حماقات حكومة متطرّفة هوجاء. كيف يمكن تفسير هذا الصمت والتواطؤ غير المبرَّرَين؟… ما يمكن اعتباره عقدةً أخلاقية تمترست في مخيال الغرب، وأخذت شكل الحاجز النفسي الذي يحول دون معاقبة الكيان الصهيوني ذريعة غير سليمة، وسردية مكشوفة، لا تعدو غطاءً تختبئ تحته الحكومات الغربية، لتترك إسرائيل تقوم بمهمتها الاستعمارية، إنهاك الشرق وتفتيته، وقولبته جغرافياً وجيوستراتجياً. فأن تتحكّم إسرائيل في مجمل التراب الفلسطيني بإعادة احتلال غزّة وضمّ الضفة الغربية والقدس الشرقية معناه أنها ستتمكّن من مدّ سيطرتها وتوسّعها إلى جغرافيات أخرى في سورية ولبنان، وربّما في مصر، إذا وجدت الشروط ملائمةً، وردّات الفعل محتشمة أو منعدمة.
الممارسات الهمجية ووجبات القتل اليومي المتوحّشة، واستراتيجية الأرض المحروقة والتهجير القسري، وتسوية كلّ ما بنته سواعد أبناء غزّة بالأرض، وهدم المؤسّسات الحيوية والمنشآت الضرورية ومباني السكّان، وتدمير الشوارع والساحات والحدائق وأماكن العبادة، وتجريف المقابر والتنكيل والتمثيل بالجثث، والاعتقالات في شروط قاسية جدّاً، والتعذيب الذي يصل إلى الموت في عشرات الحالات، وإلى الهزال الشديد والعقوبات الجماعية… ألم يحرّك هذا التوحش كلّه، وهذا الجبروت كلّه، قادة العالمَين؛ العربي والإسلامي؟ ألم يصبهم بالصدمة التي كان من الممكن أن تتحوّل صرخةً أو صيحة مدوّيةً تتبعها قرارات ملموسة لفتح كوّة أمل (ولو كانت صغيرةً) أمام سكّان غزّة، وتمكينهم من الأكل والشرب والعلاج؟ أليس من البديهي والطبيعي أن يحصل هؤلاء على هذا الحقّ الضروري لاستمرارهم أحياء؟ ألا تخفق قلوب القادة وترفّ جفونهم أمام هول الكارثة التي تجاوزت كلّ خيال وتصوّر؟ ماذا سيحدث لو ضُغط على حكومة الكيان الصهيوني بُغية ردعها وكبح جماح تطرّفها وغطرستها، ولتتوقّف عن مخطّط الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب؟ هل ستزلزل الأرض وتقوم القيامة لأنّ دولة شعب الله المختار المؤمنة والمحروسة والمسيّجة برعاية إلهية ستصاب بنوبة غضب، وستمسّ في جوهرها؟
وصل الحقد والتوحّش بالكيان المحتلّ إلى منع الغزّيين من الاستحمام في مياه البحر الأبيض المتوسط، بهدف تعقيد الوضع وزرع مزيد من الإحباط
لا. لا شيء من هذا. فقط الحكومة المتطرّفة بزعامة بنيامين نتنياهو، لمّا وجدت الساحة فارغةً وخلا لها الجو، وأدركت أن توقيع دول عربية على ما سمّيت “اتفاقيات أبراهام”، التي رعتها الولايات المتحدة، هو تفويض لها، وضوء أخضر لتنفذ أخطر جريمة ضدّ الإنسانية، وأفظع حرب إبادة في التاريخ، عوض أن تشكّل هذه الاتفاقيات، حاجزاً يمنعها من التغوّل والتنكّر لحقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم وعاصمتها القدس الشرقية. إلى متى ستظلّ دولة الاحتلال فوق القانون وخارج نظام العقوبات والردع؟ فهذا الكيان السرطانيّ عمد ضمن سياسة مُفكَّر فيها إلى تغيير المعادلة الديمغرافية في أرض الواقع، بقتل أكبر عدد من سكّان غزّة تحديداً، مع التلويح بورقة التهجير، قسراً أو طواعية. وهذا ما جعل حكومة هذا الكيان تجري اتصالات مع دول عدّة في أفريقيا وأوروبا الشرقية وأميركا الجنوبية وآسيا، إضافة إلى مصر، لاستقبال لاجئين من قطاع غزّة بمسمّيات مختلفة. ولا تخفي هذه الحكومة أنها مستعدّة لتقديم تسهيلات مالية لمن يغادر قطاع غزّة طواعيةً، مستغلّة في ذلك الحصار الطويل الذي فرضته على القطاع منذ 2007، وتضاعفت حدّته منذ “7 أكتوبر” (2023)، وظروف العيش القاهرة والتجويع المقصود. بل وصل الحقد والتوحّش بالكيان المحتلّ إلى منع الغزّيين من الاستحمام في مياه البحر الأبيض المتوسط، بهدف تعقيد الوضع وزرع مزيد من الإحباط، ودفع السكّان إلى التفكير في الهجرة الطوعية حلّاً وحيداً للنجاة من الموت.
ينبغي التعامل مع ما تقوم به الحكومة اليمينية المتطرّفة في إسرائيل بكثير من الوعي واليقظة والحسّ الاستباقي. فهي لا تدمّر وتقتل وتبيد وتجوّع وتهجّر اعتباطاً وارتجالاً، بل تنفّذ استراتيجيةً متكاملة الأركان، ومدروسةً في الغرف المظلمة في تل أبيب وواشنطن وعواصم أخرى. وهذا ما أشار إليه الصحافي والكاتب الإسرائيلي الجريء جدعون ليفي، في صحيفة هآرتس، عندما كتب (12 يوليو/ تموز الجاري)، فقال: “ليست هذه حرباً متدحرجة، ولم يعد بالإمكان اتّهام نتنياهو بحرب لا جدوى منها. لهذه الحرب جدوى، وهي جدوى إجرامية. مرة أخرى، لا يمكن توجيه الانتقادات لقادة الجيش بأن الجنود يقتلون عبثاً، هم يقتلون في حرب من أجل التطهير العرقي. مهّدتْ الأرض، يمكن الانتقال إلى نقل السكّان، أمّا الإعلانات والمناقصات المطلوبة فأصبحت في الطريق. بعد استكمال عملية النقل واشتياق سكّان (المدينة الإنسانية) لحياتهم بين الأنقاض، مجوّعين ومرضى وتحت القصف، حينئذ يمكن الانتقال إلى المرحلة الأخيرة، وهي تحميلهم بالقوة في الشاحنات والطائرات تجاه الوطن الجديد الذي يطمحون إليه، ليبيا، وإثيوبيا، وإندونيسيا”.
إلى متى ستظلّ دولة الاحتلال فوق القانون وخارج نظام العقوبات والردع؟
ما كان الكيان الصهيوني ليصل إلى هذا المستوى من التغوّل والتطرّف والعجرفة لو كان هناك موقف دولي حازم ومبدئي وجدّي. غير أنه لما حصل العكس، وتبيّن أن الغرب، ولأسباب ثقافية وتاريخية وأيديولوجية وعقائدية، وحرصاً منه على مصالح استراتيجية مشتركة مع الكيان الصهيوني. امتنع عن اتّخاذ أيّ عقوبات ضدّ الحكومة الفاشية في إسرائيل، بل أكثر من هذا مدّها بالسلاح والمال، ومكّنها من الدعم الدبلوماسي، بما في ذلك حقّها في الدفاع عن النفس، على نحوٍ فضفاض من دون تحديد أو تدقيق، لأنّ ما يهمّ الغرب، وفي طليعته الولايات المتحدة، هو إرضاء اللوبي الصهيوني وعدم إزعاجه. هذا اللوبي الذي حول السردية الإسرائيلية عن المظلومية والهولوكست ريعاً تاريخياً، وورقةً لابتزاز الدول والمؤسّسات، واتهام كلّ مَن ينتقد جرائم وفظاعات الاحتلال بأنه معادٍ للسامية، علماً أن الصهاينة ارتبكوا في قطاع غزّة أسوأ هولوكست في التاريخ، وأبشع الجرائم التي يعاقب عليها القانونَين؛ الدولي والدولي الإنساني. بيد أن الحصانة التي تتمتّع بها إسرائيل جعلتها هي التي تتهم وتتطاول، حتى على أول مسؤول أممي وتتهمه بمعاداة السامية. وإمعاناً في التطرّف والغطرسة، لم تتوان في توجيه تهديدات إلى كريم خان، المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، التي سبق لها أن أصدرت مذكّرتَي اعتقال بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن السابق يوآف غالانت. ورغم ترحيب دول ومنظّمات وحركات عربية بهذا القرار، انخرطت الحكومة الإسرائيلية ومعها حليفتها الإدارة الأميركية في حرب نفسية وإعلامية ودبلوماسية، لتحوير مسار الأحداث، وتحويل أنظار الرأي العام العالمي. الحملة المسمومة نفسها شملت المقرّرة الأممية الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في فلسطين، فرانشيسكا ألبانيز، فلم يتردّد وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في إعلان عقوبات بحقّ ألبانيز على خلفية كشفها تورّط شركات عالمية في ما وصفته باقتصاد الإبادة في فلسطين. وأوضحت المقرّرة الأممية في تقريرها أن هناك دولاً تساند إسرائيل في مشروعها للهيمنة وتهجير الفلسطينيين، وطالبت، في ضوء ذلك، بتعليق الاتفاقيات التجارية مع إسرائيل، التي تسهم في حرب الإبادة في غزّة، كما كشفت أن شركات صناعة أسلحة عالمية وفّرت لإسرائيل 35 ألف طنٍّ من المتفجرات، ألقتها على قطاع غزّة، وهي تعادل ستّة أضعاف القوة التدميرية للقنبلة النووية، التي ألقيت على مدينة هيروشيما اليابانية.
الطريقة التي تتعامل بها إسرائيل مع الأمم المتحدة ومختلف المؤسّسات الدولية، واستهتارها بكلّ القرارات، وتماديها في ارتكاب الجرائم وإشعال الحرب في أكثر من منطقة، وتأجيج الصراعات الطائفية، وتغذية النعرات العرقية والمذهبية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الهدف منه هو إقناع الفلسطينيين والعرب بأنّ إسرائيل دولةٌ فوق القانون، فهي قوية، ولا أحد باستطاعته محاسبتها أو الردّ عليها، حتى ولو اعتدت عليه، وأن القانون الدولي في اعتقادها مجرّد خرافة، وأنها على حقّ بفضل القوة التي تملكها، وبفضل دعم الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة، وأيضاً بفضل الصمت والخذلان العربي الرسمي، اللذَين حوّلتهما سلاحاً لصالحها. فهي وفق هذا المنطق دولة يحقّ لها أن تفعل ما تريد، من دون أن تخضع لأيّ ردع سوى ما تقرّره هي، ومَن يفكّر في ردعها، فمصيره الدمار والهلاك.
المصدر: العربي الجديد