
غالبا ما تكون مشاعر الشعوب وتوجهاتها مدفوعة بمصالحها العليا وقضاياها المحورية لا سيّما في أوقات الشدائد والصراعات، وهذا ما يتجلى بوضوح في المشهد السوري المعقد، إذ تتشابك خيوط الكراهية والمحبة معًا، لتشكل نسيجًا يعكس واقعًا مريرًا وتطلعات نحو مستقبل أفضل. ولا شك أن فهم هذه الديناميكية يتطلب منا تجاوز النظرة الأحادية إلى العالم، والتعمق في الدوافع الحقيقية التي تحرك مواقف الدول والشعوب.
بالنسبة لكثير من السوريين، تتجذر كراهية إيران في عمق المعاناة التي شهدتها بلادهم خلال السنوات الأليمة الماضية ولا سيما منذ تدخل إيران في قمع الثورة السورية، فهي لم تكن مجرد داعم سياسي لنظام الطاغية البائد، بل كانت شريكًا فاعلاً ومباشرًا في قمع الثورة وتغذية الصراع وفي الجرائم الوحشية التي ارتكبت ضد المدنيين، وقصف المدن والقرى، وجلب الميليشيات الطائفية التي عاثت في الأرض فسادًا، ونشر الفوضى، ومحاولات تشييع الناس والمعالم، وتعميق الانقسامات الطائفية، وترويج المخدرات، وغير ذلك من جرائم ارتكبتها بحق السوريين، ومن الطبيعي أن يسهم هذا التدخل الإيراني الوحشي ضد السوريين في ترسيخ صورة سلبية لإيران في الوعي الجمعي السوري، ومن الطبيعي أيضا أن تنشأ لدى السوريين كراهية للنظام الإيراني نتيجة تجربة مريرة ومعاناة هائلة دفع فيها الشعب السوري أرواح أبنائه ومستقبل أجياله، إذن هي كراهية مدفوعة بالظلم والاضطهاد، وبشعور عميق بالخيانة من قوى ادَّعت المقاومة، بينما كانت تقف إلى جانب نظام قمعي أباد شعبه. ودمّر بلده.
على النقيض من ذلك، فإن مشاعر الحب والامتنان التي يكنها السوريون لقطر وبعض الدول الأخرى مثل تركيا، تنبع من وقوف هذه الدول إلى جانب قضيتهم العادلة، فقد كانت قطر سندا حقيقيًا لمطالبهم المشروعة في إقامة دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وحريته وحقه في الحياة الكريمة، وقدمت دعما سياسيا وإنسانيّا كبيرا للشعب السوري، تجسد في مواقف سياسية داعمة في المحافل الدولية والعربية، وفي تقديم المساعدات الإغاثية التي خففت من وطأة الأزمة الإنسانية ولا سيما في الشمال السوري المحرر ومخيمات اللاجئين منهم في الداخل وفي دول الجوار فضلا عن تقديم الخدمات والرواتب والتعليم والمشافي وتقديم كل أشكال الدعم لتفعيل المؤسسات التي تضمن للمجتمع أن يسير سيرا طبيعيا، ولم يكن دعم قطر لفتة عابرة أو مؤقتا أو في مرحلة محددة، بل كان تعبيرًا صادقا مستمرا عن التضامن مع شعب يطالب بالحرية والكرامة منذ بداية ثورته حتى تحقيق النصر المنشود، ولعل الجميع يتذكر مواقف أمير دولة قطر سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه الله في الجامعة العربية والأمم المتحدة في التذكير بقضية السوريين العادلة والدفاع عنها ولعله الزعيم العربي الوحيد الذي لم يصافح المجرم بشار أسد، وكذلك جهود قطر بعد التحرير في تقديم الدعم لدفع الرواتب و تفعيل مؤسسات الدولة ومدها بشحنات الغاز لتشغيل محطات الكهرباء والمساهمة في رفع الحصار عن سوريا وغير ذلك من أمور جعلت السوريين يرون في قطر أحب البلدان إلى قلوبهم، وأصدق الأصدقاء وأوثقهم وأثبتهم على المبادئ وأكثرهم نصرة للحق والعدل -ولا غرابة في ذلك، فقطر كعبة المضيوم- وأصوبهم موقفا وسياسة وأحسن نموذج يمكن الاقتداء به، وطبيعي أيضا أن تنشأ المشاعر الإيجابية والمحبة والتقدير لهذا الموقف النبيل المنحاز لقضية السوريين العادلة، والشعور بأن قطر شريك السوريين في النصر تحقيق العدالة.
السياسة ليست دائمًا أخلاقية ولا عاطفية، ولكنها دائمًا براغماتية. ولعل في هذا الفهم يمكن أن يقودنا نحو رؤية أكثر واقعية للعالم
وعلى الرغم من الكراهية السورية لإيران بسبب مشاركتها في الجرائم الوحشية ضدهم، فإنّ كثيرًا من الفلسطينيين ينظرون إلى إيران بمنظور مختلف تمامًا. فإيران بنظرهم تقف قوة داعمة للمقاومة الفلسطينية في وجه الاحتلال الصهيوني. هذا الدعم، سواء كان عسكريًا أم سياسيًا، يمثل نقطة التقاء بين المصالح الفلسطينية في التحرر والموقف الإيراني المناهض -ولو ظاهريا- للكيان الصهيوني.
إنّ الشعور بالوحدة في مواجهة عدو مشترك يتجاوز في كثير من الأحيان التباينات الأخرى، وهو ما يجعل من إيران حليفًا في نظر كثير من الفلسطينيين. هذا الموقف لا يلغي معاناة السوريين، ولكنه يؤكد أن لكل شعب أولوياته ومصالحه التي توجه بوصلة علاقاته. في المقابل، تنبع مشاعر التوتر التي يبديها بعض الأكراد تجاه تركيا من سياق تاريخي معقد يرتبط بمسائل الهوية وحق تقرير المصير. فالسعي لدى بعض الأطراف الكردية لإقامة كيان مستقل يُنظر إليه في أنقرة بوصفه تهديدًا محتملاً لوحدة الدولة التركية وأمنها القومي. هذا التباين في الرؤى بين مطالب قومية متباينة ساهم في تكريس حالة من التوتر، حيث ترى أطراف كردية في الموقف التركي عقبة أمام تحقيق تطلعاتها القومية، في حين تعتبر تركيا تلك التطلعات مساسًا بسيادتها الإقليمية.
أما في السياق القطري، فقد لعبت المصالح دورًا لافتًا في تشكيل المواقف الشعبية والرسمية. فخلال أزمة الحصار التي فرضت على قطر، برز الدور الإيراني كعامل دعم لوجستي واقتصادي، من خلال فتح الأجواء والأسواق أمام المنتجات والخدمات القطرية. وقد أسهم هذا الموقف، الذي جاء في لحظة حرجة، في توليد انطباعات إيجابية لدى بعض الأوساط القطرية تجاه إيران، على الرغم من وجود تباينات سياسية قائمة، ما يعكس تأثير الظروف الإقليمية في إعادة تشكيل التصورات والعلاقات بين الأطراف.
إنّ هذه الأمثلة المتعددة تبرهن على أن العالم ليس أبيض وأسود، وأن المصالح تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل العلاقات الدولية. فالحكومة السورية الجديدة، التي تسعى الآن للانفتاح على أميركا والتعاون معها، تقدم مثالاً آخر على هذه الديناميكية. فمع أن أميركا تدعم إسرائيل علناً، وهي العدو الأول للعرب والمسلمين والإنسانية في نظر الكثيرين، إلا أن المصلحة العليا للدولة السورية الجديدة، في إعادة الإعمار، وتحقيق الاستقرار، وربما الحصول على دعم سياسي واقتصادي، قد تدفعها للتعاون مع واشنطن. هذا الموقف قد يبدو متناقضا للوهلة الأولى، ولكنه يعكس براغماتية السياسة الدولية. فالدول غالبا ما تضع مصالحها الوطنية فوق أي اعتبارات أخرى، حتى لو تعارضت هذه المصالح مع مبادئ أو توجهات ستبدو مثالية.
إنّ النظرة الأنانية التي لا ترى إلا من منظور مصالحنا الضيقة قد تحجب عنا فهم تعقيدات العالم وتنوع المواقف. ولهذا كان لزاما علينا أن ندرك أن لكل طرف مصالحه ودوافعه، ومن الطبيعي أن تسعى الدول والكيانات المختلفة إلى تحقيق مصالحها الخاصة، حتى لو بدت هذه المصالح متناقضة أو متعارضة مع مصالح أطراف أخرى، فالواقع يخلق شبكة معقدة من العلاقات التي يصعب تبسيطها أو وضعها في قوالب جامدة. والمصالح والتحالفات تتباين، وقد تجد بعض الدول مصلحة في إقامة علاقات مع الولايات المتحدة، حتى مع دعمها لإسرائيل في صراعها مع الفلسطينيين. هذه المصلحة قد تنبع من اعتبارات اقتصادية، أمنية، أو سياسية أوسع نطاقًا. في المقابل، قد يرى الفلسطينيون، أو فصائل منهم، أن مصالحهم تتوافق مع إيران، على الرغم مما يُثار حول دور سلبي إيران في سوريا والعراق واليمن ولبنان. هذه التحالفات غالبًا ما تكون مدفوعة بحسابات استراتيجية تهدف إلى تحقيق أهداف محددة، ومن ثَمَّ فإن مسألة تحديد “العدو” و”الحليف” نسبية وتختلف من منظور لآخر، ففي الوقت الذي تعتبر فيه بعض الأطراف إيران عدوًا، يراها آخرون حليفًا أو شريكًا محتملاً، وهذا يعتمد على السياق والأهداف، ومن غير الصواب اتهام كل من يتعامل مع إيران بالخيانة، فكل دولة أو طرف يسعى لتحقيق أهدافه ومصالحه، وقد يجد في إيران شريكًا لتحقيق هذه الأهداف والمصالح، بغض النظر عن اختلاف وجهات النظر حول سياساتها الإقليمية. كذلك فإن اتهام كل من يخالف ما يُسمى بـ “محور المقاومة” بأنه في حلف مع “الصهاينة” هو تبسيط مخل للواقع، فالقرار بالتحالف أو عدمه غالبًا ما يكون مبنيًا على حسابات معقدة ومتغيرة، وليس مجرد انقسام ثنائي بين معسكرين، فكل طرف له دوافعه ومصالحه الخاصة التي توجه قراراته.
في النهاية، تُظهر هذه الديناميكية أن المنطقة ليست ساحة بسيطة للخير والشر، بل هي فسيفساء من المصالح المتشابكة، وكل جهة تسعى لتعظيم مكاسبها وتحقيق أهدافها ومصالحها، وهو ما يستدعي فهمًا أعمق وأكثر دقة للواقع بدلاً من إصدار أحكام سريعة غير دقيقة أو مبنية على مشاعر وعواطف، والسياسة ليست دائمًا أخلاقية ولا عاطفية، ولكنها دائمًا براغماتية. ولعل في هذا الفهم يمكن أن يقودنا نحو رؤية أكثر واقعية للعالم، تمكننا من بناء مستقبل أفضل، لا تعتمد على المشاعر وحدها، بل على فهم دقيق للمصالح المشتركة والتعاون البناء.
المصدر: تلفزيون سوريا