وقف إطلاق النار وما وراء الحرب على إيران

رفيق عبد السلام

أخيراً، توقفت حرب الـ12 يوما بين إسرائيل وإيران بعد إعلان وقف إطلاق النار بين الطرفين بوساطة أميركية قطرية، وتحوّل الرئيس الأميركي، ترامب، تبعا لذلك، وبسرعة البرق من محارب شرس إلى داعية سلام وتهدئة، بعدما نصّب نفسه “وسيطاً نزيهاً ومحايداً” بين طهران وتل أبيب، كان ذلك بعدما نجح نتنياهو في جرّه إلى حلبة الصراع، وتحقيق أكبر حلم ظل يراوده منذ التسعينيات، في ضرب المشروع النووي الإيراني، وقد فعلها ترامب، وأقدم على تحريك طائراته وسفنه الحربية، لضرب المراكز النووية في أصفهان ونطنز وفوردو، وبشّر الأميركان بتحقيق الهدف المنشود، من دون أن يُعلن على وجه الدقة حجم الضرر الذي لحق بالمراكز النووية.

رغم الجدل الساخن داخل قواعد الجمهوريين أنفسهم من جماعة الماغا “لنجعل أميركا عظيمة مجدّداً” وفريق “أميركا أولاً”، خشية تورّط أميركا في حرب جديدة في الشرق الأوسط، وهي التي ما زالت تعاني من مخلفات اجتياح أفغانستان والعراق طليعة هذا القرن، إلا أن أجندة نتنياهو كانت راجحة في نهاية المطاف، ومن ثم استحال شعار “أميركا أولاً” إلى إسرائيل أولاً وآخراً، إن لم نقل هنا نتنياهو نفسه أولاً وآخراً.

كان ذلك بعد سلسلة من التصريحات التمويهية لترامب ونائبه، إذ تحدّث الرئيس عن مهلة الأسبوعين الممنوحة لطهران، ولكنه باغتها بعد يومين، وزاد على ذلك تصريح نائبه، جي دي فانس، ليلة الغارة الأميركية نفسها بأن إسرائيل تسعى إلى جرّ بلاده إلى الحرب، ولا يجب أن تتورّط في ذلك، وأن يصدر هذا الكلام عن فانس الأكثر تطرفاً وولاء لإسرائيل، فهذا، في حد ذاته، قرينة كافية على أن واشنطن حسمت أمرها باتجاه مشاركة الحليف الإسرائيلي في الحرب.

استحال شعار “أميركا أولاً” إلى إسرائيل أولاً وآخراً، إن لم نقل هنا نتنياهو نفسه أولاً وآخراً

إننا إزاء ما يمكن تسميته “توازن الضعف”، بما أتاح لكلا الطرفين إعلان النصر على طريقته الخاصة، فلا إسرائيل تمكّنت من تحقيق أهدافها الكاملة، ومن ذلك إسقاط النظام وكسر القدرات العسكرية الإيرانية، وعلى الجهة المقابلة تلقّت طهران ضربات مؤلمة باغتيال الصف الأول من القيادات العسكرية والسياسية، ثم رجحان كفّة جيش الاحتلال في الجو، ومع ذلك، تمكّنت من إيلام إسرائيل بتصويب قوتها الصاروخية المتطوّرة نحو المواقع الاستراتيجية في تل أبيب وسائر المدن الإسرائيلية، بما ذكّر بمشاهد الخراب في غزّة، كما تمكّنت من فرض كلمتها بقوة الصواريخ إلى اللحظة الأخيرة.

وبموازاة ذلك كله، تستمر حرب الإبادة الجماعية المفتوحة على غزّة منذ نحو سنتين، وقد أضاف إليها نتنياهو وفريقه اليميني ابتكارات جديدة وغير مسبوقة في عالم الحروب بتحويل نقاط توزيع المساعدات الغذائية لما يزيد عن مليونين من المحاصرين والمجوّعين الى مصائد قتل جماعي، حيث يعود بعضهم حاملا كيسا أو كيسين من الطحين على الظهور، ويعود آخرون جثثا محمولة على الأكتاف. وإلى جانب ذلك كله، يستمر استحواذ إسرائيل على أجزاء من جنوب لبنان واستباحة أجوائه وأراضيه، ويتمدّد الجيش الإسرائيلي في المدن والقرى السورية، فيقتل ويخطف من يشاء ووقتما يشاء.

وبعد هذا كله، تستدير آلة الحرب الإسرائيلية ضد إيران قصفا وقتلا وتخريبا، بزعم إسرائيل الدفاع عن نفسها ومواجهة خطر إيران النووي، ولا غرو أن تتجمّع الدول الغربية من حولها منفردة ومجتمعة، لتكرّر السردية نفسها، على نحو ما برز في تصريحات الأميركان ومجموعة السبع، ثم في اجتماع جنيف مع وزير خارجية إيران، عباس عراقجي.

وفي زحمة دخان الحرب المنبعث من غزّة ولبنان وسورية، وبعدما سكتت الأسلحة مؤقتاً في إيران، يبشّرنا نتنياهو مجدّداً بصنع السلام على طريقته الخاصة، أي فرض سلام الإذعان الذي يصنع بقوة الحديد والنار والإذلال على العرب ومن حولهم، بما يتساوق مع مفهومه لشرق أوسط تكون تل أبيب بمثابة عاصمته الكبرى، حيث يجري التحكّم في حركة الجيوش والاستخبارات ونشاط المال والأعمال. وكان شيمون بيريس قد نظّر من قبله في كتابه “الشرق الأوسط الجديد” لشرق أوسط يقوم على ما أسماه المال العربي والذكاء الإسرائيلي، ويقصد بذلك العبقرية الإسرائيلية التي تدير المال والأعمال، والغباء العربي الذي يدفع بسخاء “لسادة” الشرق الأوسط الجدد. أما نتنياهو فيريده شرق أوسط يقوم على فرض الاستيطان وقضم الأرض وأخذ الأموال وصنع المعطيات بقوة الحديد والنار، أي جرّ العرب جرّاً إلى التطبيع وفق نظرية راسخة في الأدبيات الإسرائيلية والميراث الاستعماري الاستيطاني، وملخّصها أن العرب لا يمكن انقيادهم إلا بكسر رؤوسهم وظهورهم بالعصا، نسجاً على منوال سلفه جابوتينسكي المحبّب لقلب نتنياهو، أحد الآباء المؤسّسين للحركة الصهيونية، وصاحب نظرية الجدار الحديدي.

الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط لا يعني شيئاً سوى إعادة انتشار عسكري بخلفية تقليل الكلفتين، المالية والبشرية، وليس انسحاباً، مع فرض الوكالة الحصرية لإسرائيل

ما كان يريده نتنياهو، وبدعم أميركي خفي ومعلن، هو تفكيك آخر حلقات التوازن في المنطقة، بعدما استكانت العواصم العربية رغباً ورهباً، واستقر في روع أغلبها أن إسرائيل حليف الحاضر والمستقبل في مواجهة شر إيران وجماعات الإسلام السياسي. الهدف القريب والمعلن هنا منع إيران من اكتساب سلاح نووي مزعوم، وهي التي أخضعت منشآتها النووية لأكثر أشكال الرقابة الدولية وأشدّها صرامة عبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأعلنت مراتٍ أنها لا ترغب في التحوّل باتجاه الاستخدام العسكري. وقد سبق لمديرة وكالة الاستحبارات الأميركية نفسها، تولسي غابارد، أن قدّمت شهادة موثوقة، ملخصها أن إيران ليست بصدد بناء قوة نووية عسكرية، وأن توجّهات القيادة الإيرانية ضد اكتساب السلاح النووي أصلا، ولكن ترامب ألقى بهذه الشهادة عرض الحائط، لغايةٍ في نفس يعقوب (أو في نفس ترامب). والمفارقة العجيبة أن الدولة التي تريد أن تفكّك سلاح إيران النووي هي الدولة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمتلك، في أقل التقديرات، 70 رأسا نوويا تحوم فوق رؤوس الجميع، وأحاطت مشروعها بسرّية كاملة، وما يزيد الأمر غرابة أن دولة السبعة ملايين تريد أن تقوض دولة التسعين مليوناً، وتراهن على تقويض نظامها، ومن ثم قيادة فضاء الشرق الكبير الذي لا تشكّل فيه سوى قطرة صغيرة، ولا صلة تاريخية أو ثقافية به.

ما تريده إسرائيل يتجاوز إيران نفسها ليطاول إعادة تشكيل الخرائط ورسم الحدود وفق “سايكس بيكو” جديد، وهو الهدف الذي يلقى دعماً أميركياً وغربياً كاملاً، ويصطدم مثل هذا المشروع “الطموح”، بالضرورة، بالقوى الإقليمية الوازنة في المنطقة. ولا غرو هنا أن يتحسّس الجيران اليقظون رؤوسهم، ويستشعروا حجم المخاطر المحيطة بهم، فتحدّث وزير خارجية باكستان، محمد إسحق دار، بلسان واضح وصريح، بأن بلاده تقف إلى جانب طهران، بل زاد على ذلك بالحثّ على تقديم الدعم العسكري لها، فإذا كانت إيران مستهدفة بزعم اكتساب مشروع نووي، فإن باكستان تمتلك واقعاً رؤوساً نووية، مكّنتها من حماية نفسها وردع جارها الأكبر منها، ولم يتردّد الرئيس التركي، أردوغان، في المسارعة بإدانة العدوان الإسرائيلي، مع تأكيد أن بلاده تتهيأ لكل الاحتمالات، علما أن مخاوف البلدين ليست مصطنعة أو موهومة، بل هي مبنيةٌ على معطيات وتصريحات أيضاً، حيث بات قادة دولة الاحتلال الأكثر يمينية وتطرّفاً يجاهرون بأن الخطوة المقبلة نزع سلاح باكستان، ويقول بعضهم الآخر إنها تركيا ومنع أردوغان من بناء خلافة إسلامية مزعومة.

قيل إن ترامب رجل يريد السلام، ولا يرغب في خوض مغامرات عسكرية، خلافاً لأسلافٍ له في البيت الأبيض، ولكن الواقع يشهد خلاف ذلك، فقد بدأ رحلته في البيت الأبيض بتجديد حرب الإبادة الجماعية على غزّة وترويج “ريفيرا جديدة” في القطاع المنكوب، بعد تهجير سكّانه، ثم أردف ذلك باتفاقٍ غير معلن مع حليفه نتنياهو على شنّ حربٍ ضاريةٍ على إيران.

ما تريده إسرائيل يتجاوز إيران نفسها ليطاول إعادة تشكيل الخرائط ورسم الحدود وفق “سايكس بيكو” جديد

والأقرب للقول هنا إن ترامب لا يريد خوض مغامرات عسكرية مكلفة وغير محسوبة العواقب ضد قوى كبرى، ولكنه إذا وجد فرصة، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، للانقضاض على خصم يعتبره ضعيفاً أو أضعف منه في ميزان القوى، فلن يتوانى في مباغتته وسحقه، أو في الحد الأدنى فرض عقد إذعان واستسلام عليه، فما يعجز عن انتزاعه بالبلطجة والترغيب والترهيب ينتزعه بالقوة العارية.

وفي السياق، راجت مقولة مضلّلة منذ حقبة الرئيس أوباما، ملخّصها أن الأميركان بصدد الانسحاب من الشرق الأوسط، للتفرّغ لمواجهة التحدّيات العسكرية الكبرى، خصوصاً في جنوب شرق آسيا، هذا في وقتٍ يزيدون في حشد أساطيلهم وطائراتهم ويوسّعون قواعدهم، ولا تقول هذه الرواية إلا نصف الحقيقة، فالانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط لا يعني شيئاً سوى إعادة انتشار عسكري بخلفية تقليل الكلفتين، المالية والبشرية، وليس انسحاباً، مع فرض الوكالة الحصرية لإسرائيل، وتسليمها مفاتيح المنطقة على المنطقة، لضبط حركة الدول والشعوب والتحكّم في مصائرها واتجاهاتها، ولك أن تقول هنا القيام بالمهام القذرة بلسان المستشار الألماني، فريدريش ميرز، نيابة عن أميركا والحلفاء الغربيين.

أما العرب، وهنا أتحدّث عن الأنظمة، فلا أثر لهم في معارك تدور على أراضيهم أو على حدودهم، فما بين عاجز لا يقدّم ولا يؤخّر شيئاً، وشامتٍ ينتظر من نتنياهو أن يكمل المهمّة نيابة عنه بالإجهاز على إيران، مثلما انتظر منه قبل ذلك الإجهاز على المقاومة في غزّة، وتخليصه من الصداع الفلسطيني، ومعه منغّصات ما يسمّونه الإسلام السياسي، وما بين واقف في المنطقة الرمادية، منتظراً مآلات الأمور ليركب القاطرة مع المنتصرين القادمين.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى