
تُعدّ العدالة الانتقالية من الأسس الحاسمة لبناء دولة جديدة قادرة على استعادة ثقة مواطنيها، وتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي.
ومع ذلك، فإن المسار نحوها، وإلى المصالحة الوطنية، ليس بالأمر السهل، خاصة في ظل ما أفضت إليه السياسة الأمنية التي اتبعتها العصابات الأسدية، وما أدّت إليه من تهالك المؤسسات الحكومية، القضائية، والاقتصادية، والعلمية، وغيرها، إضافة إلى وجود تحديات كبرى تتعلق بالتعامل مع العدد الهائل من مجرمي الحرب الذين ارتكبوا انتهاكات جسيمة خلال فترات أحداث الثورة السورية وما قبلها.
ورغم جميع هذه الصعوبات والعثرات، لا يمكن أن يُفهم من دعوات العفو عن مرتكبي جرائم الحرب في الحقبة الأسدية، التي تُرفع بين الحين والآخر، إلا أنها دعوات تشجيعية لجرائم إضافية يُعاد ارتكابها بحق الضحايا للمرة الثانية، وبحق جميع السوريين. فمثل هذا العفو لا يملك قرار البتّ فيه إلا الضحايا وذووهم، عبر لجان مختصة تكفل حقوقهم الإنسانية والاجتماعية، وتُوجد سبلًا لتعويضهم ماديًا ومعنويًا جراء ما فقدوه وتكابدوه من آلام ومعاناة، وما لحق بهم من أضرار.
وإذا كان إلقاء القبض مؤخرًا على المجرم وسيم الأسد وغيره من المجرمين يعطي أملًا للضحايا ولمعظم السوريين بإمكانية السير في طريق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، فإن سوقهم إلى الزنازين وحده لا يحقق المصالحة الوطنية ولا يُنصف الضحايا، الذين يعيش بعضهم حتى الآن في الخيام، وفي دول اللجوء، وليس لهم من مأوى أو مورد رزق على تراب وطنهم.
الضحايا قبل غيرهم ينتظرون من يأخذ بيدهم، ويمدّهم بإمكانيات النهوض والثبات، قبل انهيارهم بعد تهجير وفقر وتشرد استمر لأربعة عشر عامًا.
ثم إن تحقيق المصالحة الوطنية وإنصاف الضحايا يتطلب أيضًا أن يعترف المجرمون بجرائمهم، وأن يُقدّموا الاعتذار عنها على مرأى ومسمع الرأي العام السوري، وهذا ضروري لتأكيد الإحساس بأهمية دور الضحايا في مجرى سير المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، والتأكيد أيضًا على أنهم وحدهم المخوّلون بقبول العفو من عدمه.
وعليه، يُفترض عدم التفكير في تجاوز هذه المعادلة، وعدم السماح لأي مسؤول أن يتبنى عفوًا كهذا بعيدًا عنهم، وحتى لو تم ذلك بالتوافق مع جميع قيادات العالم ودوله، فسيبقى منقوصًا ما لم يتم الرجوع إلى الضحايا، والبحث في تفاصيل الجرائم التي ارتُكبت بحقهم، لإدراك مخاطر الإبقاء على المجرمين طلقاء. والضحايا قبل غيرهم ينتظرون من يأخذ بيدهم، ويمدّهم بإمكانيات النهوض والثبات، قبل انهيارهم بعد تهجير وفقر وتشرد استمر لأربعة عشر عامًا.
والطبيعي أن كل هذا يحتاج إلى طاقات وإمكانات تفوق طاقات الدولة السورية الوليدة، ولذلك يُفترض الاشتغال على هذا الأمر الآن من قِبل كافة الجهات القضائية والقانونية. فأي عفو ارتجالي سيُضاعف من هول الجريمة، وسيجعلها أفدح من الأولى، لكونها ستغدو جريمة مركّبة تتمثل في حماية المجرمين ومنحهم فرصة لإعادة تكرارها، ونكء جراح الضحايا من جديد.
ولتفادي مخاطر عفو كهذا، أقرت القوانين الدولية، وبخاصة اتفاقيات جنيف والمحكمة الجنائية الدولية، منع العفو عن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، واعتبارها لا تسقط بالتقادم. نعم، حدثت وقائع عفو جزئية أو كلية عن مجرمي الحروب، لكنها غالبًا ما كانت محل رفض وجدال أخلاقي وقانوني من قبل المجتمعات الدولية، وقد ازداد هذا الرفض في السنوات الأخيرة مع تكريس مبدأ عدم الإفلات من العقاب، ولا سيما في ظل السياق السوري المشبع بهول الجرائم والفظائع التي ارتكبتها أجهزة النظام الأسدي على نحو منهجي.
ومن هنا، فإن اتخاذ أي قرار يقفز فوق آلام وأوجاع الضحايا، سيعني العبث بكرامتهم وبحقوقهم الشخصية، وسيفتح المجال واسعًا لحدوث عمليات ثأرية قد تهدد السلم الأهلي برمّته. صحيح أنه لم يصدر حتى الآن أي عفو رسمي عن مجرمي الحرب، لا على المستوى الداخلي، ولا على مستوى المجتمع الدولي، لكن من الضروري الإشارة، مرة تلو الأخرى، إلى أن غياب المحاسبة والعفو عن المجرمين من شأنه أن يُفسد القواعد التي تُبنى عليها الدولة، ويُغلق الباب أمام أي مصالحة وطنية، ويؤدي إلى فقدان الثقة بين المكونات السورية.
نقول ذلك لأن كثيرًا من السوريين يشعرون أن هناك، خلف الكواليس، من يطرح فكرة “العفو” كجزء من التسويات المستقبلية، ويستشعرون أن هناك ما يُشي بعفو ضمني، خصوصًا أنهم يرون العديد من المجرمين يعيشون طلقاء بينهم، في حين تتم ملاحقة مجرمي النظام السوري في دول اللجوء، كما حدث ويحدث في ألمانيا وفرنسا والسويد، حيث جرت وتجري محاكمات لمسؤولي النظام السوري السابقين بتهم جرائم ضد الإنسانية، عبر مبدأ الولاية القضائية العالمية، مثل محاكمة أنور رسلان وإياد الغريب في ألمانيا، ومؤخرًا الحكم بالمؤبد الصادر عن المحكمة الألمانية بحق الطبيب السوري علاء موسى.
لا يمكن بناء سلام على عظام الضحايا المنسيين: إذ يُكرّس عفو كهذا ثقافة الإفلات من العقاب.
وحتى إن كانت مثل هذه المحاكمات لا تُمثّل عفوًا ولا مسارًا عداليًا شاملًا، فإنها تبقى محاولات رمزية ومهمة في كسر جدار الإفلات من العقاب. فالعفو عن مرتكبي الجرائم، خصوصًا في حالات مشابهة للحالة السورية، لا يُعد مسألة قانونية أو سياسية فحسب، بل هو مسألة اجتماعية وأخلاقية تؤثر مباشرة على السلم الأهلي، وعلى شرعية السلطة القائمة، أو أي سلطة مستقبلية.
ويمكن أن نُبيّن أبرز مخاطر العفو الارتجالي على السلم الأهلي في عدّة نقاط:
- تقويض العدالة وزرع شعور الظلم:إذ إن العفو عن مرتكبي التعذيب، والقتل الجماعي، أو الاغتصاب، يُنتج شعورًا عميقًا لدى الضحايا وذويهم بأن دماءهم مهدورة. ومثل هذا الشعور يخلق حالة من النقمة الكامنة، وقد يولّد دوافع انتقامية لاحقة، ورفضًا للدولة الوليدة.
- لا يمكن بناء سلام على عظام الضحايا المنسيين:إذ يُكرّس عفو كهذا ثقافة الإفلات من العقاب. فحين يرى الناس أن من ارتكب الجرائم لم يُحاسَب، تتكرّس لديهم فكرة أن القوة تُكافأ ولا تُحاسَب، وهذا يهدد أي مشروع مستقبلي لدولة القانون، ويُبقي العنف خيارًا مطروحًا لدى الأفراد والجماعات.
- العفو دون محاسبة أو مساءلة حقيقية يُنتج ذاكرتين متوازيتين:واحدة تعتبر ما جرى انتصارًا، وأخرى تعتبره جريمة لم تنتهِ بعد. ومثل هذا الانقسام يُضعف أي مشروع للهوية الوطنية الجامعة، ويؤسس لاحتراب رمزي، وربما دموي لاحقًا.
- إضعاف الثقة بمؤسسات الدولة الجديدة:فإذا ما تم العفو عن الجلادين أو أُعيدوا إلى مؤسسات الدولة (كالجيش، والقضاء، والأمن، والتربية، والإعلام)، فإن شرعية هذه المؤسسات ستُصاب بالشلل. فلن يثق الناس بقاضٍ كان قد ساقهم إلى السجون والمعتقلات في العهد الأسدي، ولا بجهاز شرطة يقوده من اعتقلهم أو عذّبهم، ولا يمكنهم كذلك تصديق من يدّعي الفضيلة على وسائل الإعلام، بينما هو في الأساس ليس إلا مخبرًا وواشيًا وشبيحًا.
المصدر: تلفزيون سوريا