
في قلب أوروبا الحديثة، التي ماجت بصراعات دينية محتدمة، وتقلّبات سياسية عنيفة، بدأت تتشكّل ملامح فكرة جديدة ذات طابع قانوني وإنساني في آن: حقّ المنفى، أو ما أصبح يُعرف لاحقاً بحقّ اللجوء. لم يكن اللجوء حينها كما نفهمه اليوم؛ ففي العصور الوسطى، كان هذا المفهوم يرتبط غالباً بالملاذ الذي يُمنح للمجرمين الهاربين من العدالة، أو الذين يسعون إلى الاحتماء بجدران الكنائس وأديرتها من سلطة الدولة، لكنْ ابتداءً من القرن السابع عشر، وبفعل ظروف تاريخية بالغة القسوة، بدأ هذا المفهوم يتحوّل ليشمل فئة جديدة من الناس، هم الفارّون من الاضطهاد لا من العدالة. وبين عامَي 1550 و1750، اجتاحت أوروبا موجاتُ نزوح جماعي غير مسبوقة في تاريخها، بفعل سلسلة من الحروب الدينية العنيفة، ومحاكم التفتيش، وسياسات القمع العقائدي. البروتستانت الفرنسيون (الهوغونوت)، واللوثريون في أراضي آل هابسبورغ، والكالفينيون في بوهيميا، فضلاً عن اليهود والمسلمين، الذين طُردوا من إسبانيا والبرتغال في أعقاب سقوط الأندلس، كلّهم وجدوا أنفسهم في حالة تشرّد قسري، يبحثون عن ملاذ في أراضٍ قد تكون أكثر تسامحاً، مثل بعض مدن الإمبراطورية الرومانية المقدّسة، أو في الكانتونات السويسرية التي اتخذت موقفاً أكثرَ انفتاحاً نسبياً تجاه اللاجئين الدينيين.
لم يكن الدين مجرّد شأن شخصي أو باطني، بل تحوّل هُويَّةً قانونيةً يُبنى عليها الحقّ في الإقامة أو يُرفض بسببها
ما هو أهم من النزوح نفسه، كان التحوّل في النظرة إلى أولئك الفارّين. في الماضي، كان يُنظر إلى الغرباء بريبة، خصوصاً إنْ جاؤوا من ديانات أو طوائف مختلفة، إلّا أن ما جرى في تلك المرحلة أنّ جزءاً من المجتمعات الأوروبية، خصوصاً على المستوى المحلّي، بدأ يرى في هؤلاء ضحايا ظلم، لا غرباء أو مجرمين. صار يُنظر إليهم بوصفهم أناساً يستحقّون الحماية، لا لأنهم ينتمون إلى جماعة معيّنة، بل لأنهم تعرّضوا للاضطهاد بسبب معتقداتهم. ولم يكن هذا التحوّل نابعاً بالضرورة من البلاطات الملكية أو قرارات سيادية من أعلى، بل نشأ من قلب المدن والبلدات الصغيرة، فاضطلعت المجالس المحلّية والكنائس والجمعيات الخيرية بتنظيم عمليات الإغاثة، وتوفير المأوى، وتحديد شروط الإقامة. ولفهم هذه اللحظة المفصلية، لا يكفي التوقّف عند التشريعات والنصوص القانونية التي بدأت في الظهور تدريجياً، بل لا بدّ من الإصغاء إلى أصوات المنفيّين أنفسهم. هذه الأصوات تأتي من رسائلهم، ومذكّراتهم، وتوسّلاتهم المكتوبة، التي تكشف معاناتَهم اليوميةَ الملموسةَ عند عبور الحدود في الخفاء وتزوير الوثائق والخوف من الاعتقال أو الترحيل والبحث عن مأوى آمن في عالم غريب. لم تكن الحدود آنذاك خطوطاً رسمها الجغرافيون، بل عوائقَ حقيقيةً تجسّدت في نقاط التفتيش، وفي نظرات الشكّ من السكّان المحلّيين، وفي بيروقراطية الإدارات التي كانت تزن اللاجئ وفقاً لمنفعته المحتملة أو عبئه المنتظر.
ولم يكن جميع اللاجئين سواء، فقد لعب الوضع الاجتماعي دوراً محورياً في تحديد مصير كلّ منهم. أولئك الذين كانوا يملكون المال أو التعليم أو يتمتّعون بعلاقات نافذة، استطاعوا في أحيان كثيرة الحصول على تصاريح إقامة، أو حتّى جنسية جديدة في بعض الحالات. أمّا الفقراء، فقد وقعوا تحت وطأة الشكّ، واتُّهموا بأنهم يشكّلون عبئاً اقتصادياً على المدن المضيفة. تكشف سجلات بعض البلديات الأوروبية آنذاك هذا التمييز بوضوح، إذ صنّف اللاجئون بين من اعتُبروا “صالحين” (يمكن دمجهم)، ومن لم يُرَ فيهم إلّا الفقر والخطر المحتمل. لم يكن الدين مجرّد شأن شخصي أو باطني، بل تحوّل هُويَّةً قانونيةً يُبنى عليها الحقّ في الإقامة أو يُرفض بسببها. في مدنٍ عديدة، كان يُطلب من اللاجئ الانضمام إلى كنيسة محلّية، بل وتغيير طائفته أحياناً، من أجل البقاء في المدينة. هكذا أصبح الإيمان، ليس قناعةً شخصيةً، بل علامة اجتماعية، ومفتاح للقبول أو الطرد. أمّا النساء، فكنّ جزءاً لا يتجزأ من هذا المشهد، وإن غابت أسماؤهنّ من كثير من السجلّات الرسمية. بعضهن تركن وراءهنّ رسائلَ ومذكّرات تفيض بالشجاعة والواقعية. أمّهات قطعن مسافاتٍ طويلةً مع أطفالهنّ، أرامل نظّمن الهروب لعائلات بأكملها، فتيات أخفين معتقداتهن حفاظاً على حيواتهنّ. لم تكن المرأة في هذه المآسي مجرّد ضحية، بل كانت فاعلة تقود وتقرّر وتقاوم.
ساهم المنفيون في صياغة حقّ اللجوء، لا بصراخهم أو معاناتهم فحسب، بل من خلال صمودهم، ومساهماتهم في مجتمعات اللجوء
في موازاة هذه التحوّلات، بدأت مجتمعات تحاول تصنيف أنواع الوافدين: هل هذا الشخص مهاجر اقتصادي؟ أم تاجر؟ أم لاجئ ديني؟ أم منفي سياسي؟ ورغم أن هذه التصنيفات قد تبدو تقنية أو إدارية، إلّا أنها كانت في جوهرها محاولةً لفهم “الآخر”، وتنظيم العلاقة معه، ووضع حدود للانتماء في زمن لم تكن فيه الدول القومية قد تشكّلت بعد بالشكل الحديث. إنّ ما تكشفه هذه المرحلة من التاريخ هو أنّ الأسئلة التي تبدو اليوم معاصرةً (مثل من يستحقّ اللجوء؟ وما الفرق بين المهاجر واللاجئ؟ وما معيار الحماية؟)، ليست جديدة. لقد عرفتها أوروبا منذ قرون، وواجهت آنذاك مزيجاً معقّداً من الخوف والتضامن، ومن الانغلاق والكرم، ومن المواقف القانونية التي وضعت الأسس لما نعرفه اليوم بوصفه حقّ اللجوء الحديث. لقد ساهم المنفيون في صياغة هذا الحقّ، لا بصراخهم أو معاناتهم فحسب، بل من خلال صمودهم، ومساهماتهم الفعلية في المجتمعات التي لجؤوا إليها. لم يكونوا مجرّد ضحايا، بل كانوا فاعلين في رسم معالم تصوّر جديد للكرامة الإنسانية في مواجهة الظلم والاضطهاد.
المصدر: العربي الجديد