خطة “دبيب النمل” التي لم تصل إلى وجهتها!

منهل عروب

لطالما تباهت إيران بما تُسمّيه “محور المقاومة”، مستعرضةً قدرتها على خوض مواجهات غير تقليدية مع إسرائيل من خلال وكلائها في المنطقة. غير أن هذا المحور، ومع كل ما حمله من مواجهات ومآسٍ على المنطقة وشعوبها، يبدو اليوم وكأنه يسير نحو خاتمته المتوقعة؛ إخفاقٌ استراتيجي صارخ، واستباحةٌ كاملة لرأس المشروع: إيران.

وفي ظل تسارع الأحداث الأخيرة، وانتقال المواجهة إلى داخل الأراضي الإيرانية، تظهر بوضوح ملامح هزيمة سياسية وعسكرية كثيراً ما حاولت إيران ستر عورتها خلف شعارات “الصبر الاستراتيجي”، والردّ المؤجّل، وخطّة “دبيب النمل”.

“دبيب النمل” أطلقها بعض الكتّاب وهم يُسهبون في شرح الخطة الإيرانية في مواجهة العدو الصهيوني؛ مديحاً، أو قُل تطبيلاً، كلّما تعرّضت إيران لضربة مؤلمة واضطرّت إلى السكوت لعدم قدرتها على الردّ. وقد استخدمنا هنا مفردة “التطبيل” للدلالة على التحيّز الإيديولوجي، والترديد الأعمى للدعاية الإيرانية، بدل توجيه النقد لخطة تعتمد الميليشيات سلاحاً بديلاً عن الدولة، وبناء التحالفات السياسية والشراكات مع الدول المعنية. فإذا أردنا توصيفاً موضوعياً، مثلاً، لخطة دولة ما أو مشروع استراتيجي طويل الأمد في مواجهة الكيان الصهيوني (بما يمثل واجهة للاستعمار الغربي الحديث)، فهي ستقوم على إنشاء تحالفات سياسية ـ اقتصادية ـ عسكرية مع الدول المجاورة للكيان الصهيوني، بهدف إنشاء واقع جديد يحدّ من التفوق الإسرائيلي، ويجبره على الالتزام بقواعد صراع تكون إيران وحلفاؤها الطرف الأقوى فيه، أو على الأقل يحقّق توازناً مفقوداً منذ عام 1967. سيدفع هذا التحالف نحو التنسيق أكثر وأكثر، ويحاول تدوير زوايا الخلاف بين مصالح الدول المنضوية في هذا المشروع.

المستوى الأخطر للنهج الطائفي هو الداخل الإيراني نفسه. فعشية الهجوم الإسرائيلي، وبجانب الاستباحة الإسرائيلية للسماء الإيرانية نتيجة التخلّف التكنولوجي وفارق التسليح النوعي، رأينا مستوى الاختراق الكبير يجول في عموم الأراضي الإيرانية.

ولكن الواقع أن إيران أقامت تحالفات ما دون الدولة، تعتمد الميليشيات داخل الدول في لبنان والعراق واليمن، وتحالفاً وحيداً مع نظام قائم ـ أو كان قائماً ـ وهو نظام الأسد المخلوع، وكانت شراكة للقضاء على الانتفاضة الشعبية، ثم تحولت إلى هيمنة إيرانية شبه مطلقة. ثم استثمرت هذه الهيمنة أيضاً لتأسيس وترسيخ ميليشيات طائفية أساسها معاداة الأكثرية. وهكذا تحوّل المشروع الإيراني ـ أو انكشف على حقيقته ـ من مشروع دولة إلى مشروع هيمنة. وتحوّلت إيران إلى دولة “تشبيح”، أو “فتوّة” بالتعبير المصري، تتغذى وتعتاش على الفوضى بدل التحالفات، لعدم امتلاكها رؤية سياسية حقيقية، والسبب الأهم لعدم إيمان نظامها بالشراكة مع الآخرين.

هذه الاستراتيجية، التي بدت ذات يوم فاعلة ومتماسكة، انكشفت مع مرور الزمن كوجه من وجوه الضعف، لا القوة. ففي مقابل دولٍ بنت نفوذها الإقليمي عبر تحالفات دبلوماسية ومشاريع اقتصادية، اختارت إيران الاستثمار في الميليشيات. حزب الله في لبنان، الحشد الشعبي في العراق، الحوثيون في اليمن، والميليشيات الشيعية في سوريا، كلها نماذج لسياسة بديلة لتحالفات الدول: سياسة التفخيخ الداخلي والارتهان غير الرسمي. وبينما وقّعت إسرائيل معاهدات سلام مع دول كالأردن ومصر، وانخرطت في تعاون استراتيجي مع الخليج، اعتمدت إيران على مجموعات خارجة عن القانون تفتقد للشرعية الدولية، وهو ما زاد من عزلتها وأضعف موقفها السياسي. بينما نشطت الدبلوماسية الإسرائيلية في إقناع الدول العربية بأن العدو الحقيقي يقع على الحدود الشرقية.

عند الحديث عن خطأ استراتيجية التحالف مع الميليشيات وفشلها الحتمي، كانت ـ وما زالت ـ تُقابل بثنائية الاختيار بين إيران الطائفية أو التحالف الإسرائيلي. وهكذا غابت حلول الشراكة في المنطق الإيراني ـ وهنا نقصد النظام الإيراني طبعاً ـ، وحُشرت كل معارضة لمنهجها في زاوية الخيانة والتحالف مع إسرائيل، ممّا ولّد صداماً رسمياً وشعبياً مع عدد من الدول العربية. وأصبح الخطر الشيعي مقدَّماً على الخطر الصهيوني.

لم يقتصر الضرر على علاقتها مع جيرانها، بل امتدّ إلى علاقاتها الدولية. ففي حين تمّ عزلها عن النظام العالمي، ومحاصرتها اقتصادياً وتكنولوجياً من قبل القوى الغربية المناوئة، فإنها لم تكسب ثقة الجهة المقابلة، ونقصد هنا تحديداً الصين وروسيا. فالصين لم تَرَ في إيران سوى “كازية” بأسعار مخفضة، ولم ترتقِ بسياساتها إلى مستوى “دولة ثقة”، وقد لاحظنا غياب التسليح الصيني النوعي أو الشراكات الاقتصادية الكبيرة. وفشلت كل محاولات إيران في استيراد سلاح جوي روسي حديث على غرار الهند أو حتى باكستان.

المستوى الأخطر للنهج الطائفي هو الداخل الإيراني نفسه. فعشية الهجوم الإسرائيلي، وبجانب الاستباحة الإسرائيلية للسماء الإيرانية نتيجة التخلّف التكنولوجي وفارق التسليح النوعي، رأينا مستوى الاختراق الكبير يجول في عموم الأراضي الإيرانية. ورغم أن نظام الملالي نظام ثيوقراطي منغلق، لم يمنع ذلك من وجود حتى ورشات كاملة تعمل في أبنية ذات طوابق متعدّدة ـ وفق التصريحات الإيرانية ـ في انعكاس واضح لمستوى العداء الشعبي للنظام القائم، الذي يحكمه بالحديد والنار وليس بالشراكة والمسؤولية، مما سهّل بناء شبكة واسعة من العملاء في الداخل الإيراني.

من الواضح أن خطة “دبيب النمل” لم تصل إلى وجهتها، بل انتهت إلى فشل كامل، ناهيك عن احتمال حدوث تصدّعات في النظام نفسه.

في عام 2021 ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ نفّذت إيران غارات بطائرات مسيّرة على قاعدة أمريكية في التنف في سوريا، وقد اعتُبرت بمثابة الرد على الغارات الإسرائيلية على ميليشيات إيرانية في الجنوب السوري. أوردنا ذلك المثال للدلالة على قواعد الاشتباك في ذلك الوقت، والتي كانت الأراضي الإيرانية خارج الصراع. اليوم، عام 2025، وبعد أربع سنوات من العمل المنظّم والصبر الاستراتيجي من كلا الطرفين ـ الإيراني والإسرائيلي ـ، في النتيجة نرى ليس فقط الجرأة الإسرائيلية، بل استباحة شبه كاملة للسماء والأرض الإيرانية. فقدت إيران، في الأسبوع الأول، 14 عالماً إيرانياً وفقاً لرويترز، وكبار الجنرالات من الصف الأول، منهم رئيس هيئة الأركان. ثمّ تم اغتيال القائد الجديد. لم تقتصر الهجمات الإسرائيلية على الأهداف العسكرية، بل امتدت الآن إلى تدمير كل ما يمكن تدميره من بنية تحتية وخدمات الطاقة، وسط عجز إيراني عسكري ودبلوماسي عن إيقاف الهجوم. لم يكن الهجوم الإسرائيلي الكاسح مرتجلاً، بل كان ـ وفقاً لورقة بحثية نشرها الضابط الإسرائيلي إيال زامير ـ نتاج سنوات من العمل الدؤوب في تطوير القدرات الاستخباراتية، ونسج التحالفات، وإنشاء القواعد داخل إيران نفسها، والصبر الاستراتيجي على تحرّشات حزب الله اللبناني والميليشيات العراقية في الجنوب السوري.

من الواضح أن خطة “دبيب النمل” لم تصل إلى وجهتها، بل انتهت إلى فشل كامل، ناهيك عن احتمال حدوث تصدّعات في النظام نفسه. فلا الميليشيات نجحت في ترهيب إسرائيل، ولا الصبر الاستراتيجي أفاد إيران في بناء تحالفات استراتيجية وتحديث قواتها المسلحة. وفي ظل الاستباحة المتكررة لسماء وأرض إيران، يبدو أن مشروع طهران كقوة إقليمية مهيمنة يواجه نهايته الواقعية، ليس بالضربة العسكرية فقط، بل بفعل تراكم الهزائم الناتجة عن العمى الإيديولوجي، وعجز الرؤية السياسية، وببساطة: خطأ الخطة الموضوعة.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى