شكراً للمدافعات وللمدافعين عن غزّة

ريم منّاع

لا يقتصر أثر الإبادة الاسرائيليّة المستمرّة منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 على سلب الفلسطينيين في غزّة حقّهم في الأرض والحياة، بل تمتدّ إلى مشروع أخطر: تفكيك القدرة الإنسانية خارج فلسطين على الدفاع، وعلى التضامن، وعلى اتخاذ موقف حرّ، كأنّ المطلوب اليوم شيء واحد، أن يُجرَّد الإنسان من أبسط حقوقه الأخلاقية، من حقّه في أن يقول: لا. ما يلفت ليس وحشيةَ العدوان فحسب، بل القمع المنظَّم ضدّ كلّ من يرفضه في العالم. احتجاجات الطلاب والنقابات والفنّانين والأكاديميين في الجامعات والساحات قوبلت بقمع يبدو منسّقاً عالمياً. لم يعد السؤال: لماذا يُقمَع التضامن؟ بل ما الذي يثير ذعر الأنظمة القمعيّة من التضامن؟… ما يثير ذعرها الإمكانية الأخلاقية لرفض الظلم عالمياً، والخوف الوجودي من يقظة مجتمعية تُعيد تعريف الفعل السياسي خارج منظومة الطاعة والاستهلاك. ما يُقمَع اليوم ليس الفعل وحده، بل الطاقة التي يحرّكها؛ إدراك الناس قدرتهم على الاختيار والمواجهة، واستعادة الحقّ في الرفض وقول الحقّ.
تحرّكت دول كثيرة لقمع حتى أبسط أشكال التضامن. في بعض البلدان، فُرضت قوانين تُجرّم أيّ منشور رقمي يمكن تأويله “تحريضاً”، واعتُقل عشرات النشطاء بتهم فضفاضة. تعرّضت جامعات شهدت اعتصامات طلابية سلمية لضغوط سياسية، وصلت إلى الاستدعاء الأمني والطرد الإداري، بل بات تحويل المال إلى غزّة تهمة “دعم للإرهاب”، لا عملاً إنسانياً بديهياً، لكنّ هذا القمع لا يكتفي بمنع الفعل، بل يحاول التسلّل إلى الداخل. المطلوب من الفرد اليوم ليس أن يصمت فحسب، بل أن يُدجَّن، وأن يُقنع نفسه أنه يصرخ في فراغ مُراقب، وأن لا جدوى من أيّ محاولة للاعتراض.

حتى أبسط الأفعال، إذا نبعت من وعي أخلاقي تتحوّل دفاعاً عن الذات، وما تبقّى من المعنى؛ أن يختار المرء أن يقاطع منتجاً، أن ينسحب من منصّة… أن يرفض الصمت

ولكن عندما تُخنق مساحات الفعل الجماعي، ويُجرَّم الاحتجاج، وتُراقَب الكلمة، لا يعني ذلك نهاية الفعل السياسي، بل تحوّله. وفي غياب الشارع، تصبح الخيارات الفردية مواقع نضال لا تقلّ أثراً. حتى أبسط الأفعال، إذا نبعت من وعي أخلاقي، تتحوّل دفاعاً عن الذات، وما تبقّى من المعنى. أن يختار المرء أن يقاطع منتجاً، أن ينسحب من منصّة، أن يكتب رأياً، أن يرفض الصمت… هذه ليست نضالات جماعية منظّمة، بل اختيارات فردية، ويجب ألّا نسمح بنزعها منّا. ففي زمن يُعاقَب فيه العمل الجماعي، ويُخنق التضامن، تكتسب الأفعال الفردية وزناً مختلفاً، لأنها لا تدافع عن موقف فحسب، بل أيضاً عمّا هو أعمق من الرأي السياسي، عن الحقّ في أن تكون إنساناً يفكّر ويختار. أهمية الاختيار الفردي تكمن في ألّا نتنازل عنه، لأن ما تفعله أنت، وما يقوم به غيركَ، هو تراكمٌ لقوةٍ، أو على الأقلّ إبطاءٌ لعجلة الظلم. والأكثر أهميةً أن الفعل الفردي لا يعيش في عزلة عن التنظيم الجماعي، يشبه ريّ بذرة تنمو وتتصل بغيرها عندما يحين الوقت.
نعيش (للأسف!) لحظة خنق عالمي للفعل الإنساني. تُغلَق المعابر، تُجمَّد التبرعات، وتُجرَّم الكلمات والاعتصامات السلمية. يُعاد تشكيل الإنسان مستهلكاً صامتاً، خائفاً من ثمن التعبير داخل منظومة تتظاهر بـ”الحياد”، لكنّها تكرّس الظلم. ما لا يدركه المشروع القمعي هو أن القمع حين يشتدّ لا يُخمد التضامن، بل يحوّله حاجةً وجودية. فالفرد يرفض نفي ذاته أخلاقياً، ويحتاج أن يشعر بأنه لا يزال حيّاً. ورغم أدوات المنع كلّها، تتواصل أشكال التضامن وتتّسع.
في الأول من يونيو/ حزيران 2025، أبحرت سفينة الإغاثة مادلين من أحد الموانئ الأوروبية باتجاه غزّة، وعلى متنها نشطاء من دول عدّة. تحدّت الحصار، لكنّها لم تصل. اعترضها جيش الاحتلال، واعتقل مَن كانوا على متنها. لم تكن الرحلة انتصاراً سياسياً، بل كانت فعلَ مقاومة رمزياً وأخلاقياً، أبحر في قلب القمع ليقول: الضمير لا يُسجن، حتى لو اعتُقل الجسد. انطلقت “قافلة صمود” من دول المغرب الكبير باتجاه معبر رفح، للمطالبة بوقف الإبادة وإدخال المساعدات، لم تتمكن القافلة من الوصول، للوقوف في وجه الحصار، ولتأكيد أن غزّة ليست وحدها، لكنّهم بالتأكيد وصلوا إلى قلوب الناس، وأيقظوها من حافة الغيبوبة المفروضة. وربّما وصلت رسالتهم إلى قلوب أهل غزّة أنفسهم، فكسرت شيئاً من بؤس الخذلان المتراكم.
ليس هذا سوى غيض من فيض أفعال الصمود الشعبي حول العالم. شركات كبرى وهيئات انسحبت من مشاريع وأوجه تعاون مع إسرائيل تحت ضغط جماهيري ومؤسّساتي. وهذا التيّار لا ينحسر. يوماً بعد يوم، نسمع عن أفراد في مواقع عمل مؤثّرة يرفضون أن يُختزَل وجودهم في وظيفة تُطبّع القتل وتكمّم الضمير، وعن طلّاب يواصلون الاعتصام في جامعاتهم، وفنّانين ينسحبون من منصّات تطبّع القتل، ومستهلكين يقاطعون منتجات تموّل الإبادة، لأنهم يعلمون أن كلّ قرار يومي هو فعل سياسي. من يتحرك اليوم من أجل فلسطين لا يفعل ذلك بدافع أمل ساذج بانتصار قريب، بل لأنّه يرفض أن ينتمي إلى عالم تُطفأ فيه الأخلاق، وتُفرّغ فيه العدالة من معناها.
لم يكن الشرّ غريباً على مسيرة البشر. عبر التاريخ، ارتُكبت مجازر، وأُبيدت شعوب، وتحوّلت حضارات إلى أطلال بفعل الطمع والاستعمار والعقائد التي شرّعت القتل. وعلى امتداد القرون، كانت الإنسانية تعيد اختراع أدوات الفتك وتمنحها أغطية مختلفة، دينية وقومية، وحتى حضارية. لكن إلى جانب هذا المسار الدموي، وُجد دوماً مسار آخر، أبطأ وأكثر هشاشةً، حاول أن يهذّب الإنسان؛ الأخلاق والتعاطف والقانون ومفاهيم العدالة. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، بدا أن البشرية بلغت لحظة وعي فاصلة حين صاغت “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، بوعدٍ ألّا تتكرّر الفظائع الكُبرى. وما يجري اليوم في غزّة يذكّرنا بأن ما يمنع تكرار الفظائع ليس الوثائق، بل الاختيار الواعي لرفض الظلم، والتمسّك الحقيقي بالمبادئ التي تدّعي تلك الوثائق حمايتها.

تتسارع آلة القمع ويتعمّق الشلل الرسمي، لكنّ هناك من يرفض الاستسلام؛ دفاعاً عن غدٍ تكون فيه العدالة جزءاً من الفطرة لا الوثائق

الإفصاح الصهيوني عن العنف، والتباهي بالإبادة، فجّر انتفاضة ضمير حول العالم. نعم، آلة القمع تتسارع، والشلل الرسمي يتعمّق، لكن ما لم تُدركه هذه المنظومات هو أن هناك من لا يزال يرفض الاستسلام لليأس.عندما نرى أفراداً ومجموعات يتجاوزون الخوف، يقفون، ويقاطعون، ويكتبون، ويدفعون الثمن… فإنهم لا يدافعون عن غزّة فحسب، بل عن “الغد” الذي تُصبح فيه العدالة جزءاً من الفطرة لا الوثائق. ما يحدث من نضالات، فردية كانت أو جماعية، حتى إن لم توقف الإبادة فوراً، تظلّ ضرورية، لأنها تحمي إنسانيتنا من السقوط في فخّ اللامعنى، وتصون احتمال العيش في عالم لا يُبرّر الجريمة، ولا يحتاج إلى وثائق كي يُدرك أن القتل جريمة، وأن العدل حقّ لا فضل.
غزّة اليوم ليست مرآةً لما يحدث هناك فحسب، بل لما نحن عليه هنا أيضاً. وكلّ من اختار أن يرفض الصمت، يدافع عن حياة تستحقّ أن تُعاش. السؤال لكلّ منّا الآن: ماذا سأختار أن أفعل، أن أقول، أن أرفض، كي أُساهم (ولو بخطوة) في مسار العدالة؟ فقمع الفعل الجماعي لا يجب أن يسحب معه شرعية الفعل الفردي، أيّاً كان حجمه.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى