بيتٌ في معضمية الشام

أحمد جاسم الحسين

بعد غيابٍ طويل، ثلاثة عشر عاماً حملتْ من العواصف السورية والشخصية والعملية ما يكفي لأجيال، هذه هي سيرة السوريين اليوم.

كانت الطريق إلى معضمية السام أقرب إلى دحرجة في الروح؛ تتسلّل من فتحةٍ صغيرة في جدار المنفى الاختياري. بيتنا هناك، الذي تركناه ذات ليلٍ هاربين من القصف والموت، ظلّ يزورني في مناماتي مثل أمٍ مدنفة تنتظر أبناءها ولا يخذلها الرجاء. وحين وصلت، وقفت أمامه كما يقف الابن أمام والده المريض بعد طول غياب: مشوشاً، متردداً، مثقلاً بالذنب الذي لا ذنب لي فيه.

كان البيت مهدماً، ليس بالكامل، لكن بالقدر الذي يكفي ليحكي ما مرّ عليه. الجدران تميل على كتفي كمن أرهقها الغياب، والشرفة التي كانت تعانق شمس الصباح انخلع عنها السياج، وباتت بلا سقف. صعدت الدرج وخطاي كأنها تطؤ قلوباً لا أرضاً، وقلت له بصوتٍ يشبه الهمس: عدتُ يا بيتي… هل تذكرتني؟

أنت لم تغب عن بالي، فهل أنا كذلك؟ ما الذي حلّ بك، وكيف تركوك دون أبواب أو شبابيك؟ هل كنت كذلك تشعر بالبرد حين يمر بك الهواء دون “إذن ولا دستور”؟ دون “احم احم ..تستروا؟”

هل كنت تبرد في الشتاء؟ وتشتكي من حر الصيف؟ لماذا بقيت البيوت فوقك وتحتك لم تتهدم؟ هل يوجد أحد ما وضع شريحة فيك كي يهدموك حين لم تعجبهم مواقفي وكلامي؟

أمسكتُ أحد جدرانه وألصقت جبيني عليه، قلت له: “لقد بُنيتك حجراً حجراً، كل زاوية فيك تحمل بصمتي. لكنني لا أدري اليوم: هل أصلحك؟ هل أتركك مهدماً لتبقى روائحنا فيك؟

هنا، على هذه العتبة، كان أولادي يقفون خلف الباب، يتدافعون ليكونوا أول من يحتضنني حين أعود من الجامعة. وهنا، كانت زوجتي تفتح الباب وهي تمسح بيديها آثار الطهو وتبتسم: اشتقنالك! تلك الابتسامة التي كانت تسبق كل طعامٍ شهيٍّ تعده بمحبة وطن!

اليوم لم يعد أحد ينتظرني، وأنا لم أعد أنتظر أحداً، ما أكأب الحياة دون انتظار وما أصعب الحياة على ألم الانتظار، لقد تعلمت من انتظار غودو ولم أنصت لمحمود درويش وهو يدعونا للانتظار!

الأولاد كبروا، وتفرّقت بهم الدروب. من بقي في أوروبا، ومن شقّ طريقاً في مدينة أخرى، ومن انزوى بعيداً حتى في القرب. خرجنا خمسة منك أيها البيت وها أنا أعود وحيداَ!

لم تعد العوائل السورية في الغربة عوائل، بل شتات أرواحٍ تحمل الاسم ذاته، لم تعد تعرف ذاك الدفء الذي كان يجمعنا ويلمنا ويحضننا، يعدد إحصائيو الحروب الضحايا والرزايا والمجازر لكن لا أحد منهم يستطيع أن يعد أو يعوض الذكريات الراحلة أو تلك التي أفلتت من يدنا بعد أن أكلتنا الغربة!

دخلتُ البيت كما يدخل الغريب بيته الأول، صافحت الجدران، تلمستُ مكان الباب الذي عفشوه، همستُ لكل غرفةٍ عن أحوالي، عن أخبارنا، عن اللجوء الذي شرّدنا وفرّقنا. أخبرته عن البلد الذي استضافنا ولم نُحبّه، عن المدارس الغريبة، وعن اللغة التي اخترقت أرواح أولادي، فتحدثوا بها أكثر من لغتنا العربية الأم، وعن كيف حاولنا أن نكون “عاديين” فلم نفلح. مشيت في المطبخ، لمست سطح رخامه المكسور، وقلت له: “هل تذكر رائحة الطبخ كل ظهيرة؟ يوم كنت أعود من السوق محملاً بالخضروات والضحك؟”

توقفتُ عند مكان مكتبي الصغير: كم من المقالات كتبتُها فيه؟ كم من الكتب قرأتُها هنا بينما أطفالي يتراكضون حولي؟ ويشيحون الجريدة من بين يدي كي لا أنشغل بها عنهم؟ ما أجمل غيرة الأطفال من جريدة!

تذكرتُ نوافذه التي كنا نفتحها كل صباح لنستنشق نسيم ما كان يدعى بالغوطة، قبل أن تزرونا الحرب وباتت حماية لنا، يوم تمر دوربات املاخبرات يصرخون علينا : أنزلوا الأباجورات، ممنوع النظر إلى الخارج،

كي لا نرى من يعتقلون أو ماذا يرتكبون! ومع ذلك نا نتلصص ونخبر أبناء الحارة لعلهم يجدون منفذاً لإخراج المعتقلين!

اليوم، النوافذ مهشّمة والأرواح كذلك، والمكتب لو بقي في مكانه لعلاه الغبار، لكن روح الكتب ما زالت تهمس في المكان، تحدثني عن شوقها للأيدي تفتحها لتقرأ حروفها المتعبة.

قلت له: حتى أنا تغيّرت، لم أعد أكتب كما كنت، صارت الكتابة مقاومة داخلية لا متعة فكرية! أعجبتني العبارة، ثمة شيء تغير في علاقتي بالكتابة، منذ تركت هذا البيت، يوم أكلتني الحرب واللجوء!

شرفة البيت كانت مرآة عائلتنا، كم مدّ الأطفال أرجلهم من السور الحديدي وهم يجلسون على الجدار، بعد أن تضع لهم أمهم اسفنجة كي يكونوا مرتاحين وهم يتفرجون على الحياة.

جلسات القهوة في الصباح، نقاشات المساء مع الجيران الذين سرقتهم الغربة كذلك وأبعدتنا خيارات الحياة رغم أننا نعيش في بلد واحد، ضحكات الأولاد، وبداية الهمس السياسي.

هناك، في إحدى أمسيات عام 2011، صوّرت المتظاهرين بهاتفي المرتجف، ثم سمعنا الرصاص يصفّر بجانب رأس طفلي. كدنا نموت، لكن شيئاً فينا أصرّ أن يحيا. في تلك اللحظة، بدأ كل شيء يتغيّر. حتى البيت، منذ ذلك اليوم، لم يعد كما كان صار مثلي خائفاً ويبحث عن لحظة أمان.

سألت البيت: “هل اشتقت إلينا؟ هل حلمت أن نعود؟ أم أنك، مثلي، بدأت تيأس؟

أمسكتُ أحد جدرانه وألصقت جبيني عليه، قلت له: “لقد بُنيتك حجراً حجراً، كل زاوية فيك تحمل بصمتي. لكنني لا أدري اليوم: هل أصلحك؟ هل أتركك مهدماً لتبقى روائحنا فيك؟ هل أجرؤ على أن أراك جديداً ولا أجدنا فيك؟ كيف أنساك وقد عاش فيك أطفالي الثلاثة سنواتهم الخمسة الأولى فيك؟

البيوت لا تبنى من حجر بل تبنى من أرواحنا وأحلامنا، من ذكريات، وحبّ وألم. بيتنا: سوريا الصغيرة، المتعبة، التي ما زال أبناؤها يسألون أنفسهم: كيف نكمل الطريق؟ كيف نسامح؟ كيف ننسى؟ وهل نريد أن ننسى؟

كان صوته صامتاً، لكنني شعرت أنه تعب من الانتظار. كأن البيت نفسه هرِم في غيابنا، الذكريات أثقلت جدرانه. قلت له: سوريا… سوريا نفسها تهدمت، ليس فقط بالمباني، بل القلوب، بنيتها الاجتماعية، أخوّتها، دفء الجار للجار، كلّها تهاوت مع الرصاص والتهجير. والآن: هل نملك حباً كافياً لنبنيها ثانية؟ هل نبنيك أنت؟

كل زاوية في البيت كانت تردّ عليّ. الحمّام بأرضيته الترابية، يتذكر بكاء ابنتي حين سقطت صغيرة، غرف النوم تئن من وحدتها. الصالون وغرفة المعيشة الذي كان يمتلئ بالضجيج وضحكات الأطفال والأصدقاء والنقاشات، صار صداه يُؤلم، اليوم أصبح مطلاً على الحزن فقط.

البيوت لا تبنى من حجر بل تبنى من أرواحنا وأحلامنا، من ذكريات، وحبّ وألم. بيتنا: سوريا الصغيرة، المتعبة، التي ما زال أبناؤها يسألون أنفسهم: كيف نكمل الطريق؟ كيف نسامح؟ كيف ننسى؟ وهل نريد أن ننسى؟

قبل أن أغادر، نظرت إليه طويلاً، قلت له: أنت وأنا صديقان مع وقف التنفيذ نتيجة الغياب. كلانا لم يعد كما كان. لكن ربما، لو أبقيناك مهدماً، تظلّ فيك روائحنا، لا أريد أن تُبنى فتُنسى أيامنا، وربما، إن رممتك، رمّمت شيئاً في قلبي أيضاً، من يرمّم القلوب المسافرة؟

في لحظة الرحيل لم أكن على أبكي على بيت مهدم، كما كان يظن صديقي الذي يرافقني، بل على بلدٍ تشظّى، عائلةٍ تشتّتت نتيجة الحرب واللجوء وعلى حلمٍ لم يكتمل.

تركته هناك، في حضن معضمية الشام، شامخاً رغم الخراب، صامتاً كأنه يدرك كل شيء، ونظرت إليه نظرة أخيرة. ثم سرت هارباً منه، وكانت كل زاوية فيه تحكي قصة.

بيوتنا المهدمة تشبه سوريا وأرواحنا المنهكة، ولم يكن وداعي له وداعاً لحجر، بل وداعاً لعالمٍ كنّا نظنه سيبقى… إلى الأبد، وما درينا أنه لا دائم في الحياة التي لا يعيش فيها إلا العابرون والمؤقتون، نحن الذي كان يملؤنا يقين الديمومة!

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى