
يشكّل ملف الاختفاء القسري في سوريا أحد أكثر الملفات حساسية وتعقيدًا ضمن سجل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي شهدها النزاع المسلح منذ عام 2011. وقد لجأ نظام الأسد، بشكل منهجي، إلى توظيف الاختفاء القسري كسلاح حرب يستهدف الأفراد أولًا، ثم عائلاتهم ومجتمعاتهم لاحقًا، في محاولة لتفكيك النسيج الاجتماعي وترسيخ مناخ من الرعب والإذعان. ووفقًا لقاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن ما لا يقل عن 177,000 شخص لا يزالون في عداد المختفين قسريًا على يد مختلف أطراف النزاع، ما يضع هذا الملف في صدارة أولويات العدالة الانتقالية بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول 2024.
وانطلاقًا من هذا المنظور، لا يمكن معالجة ملف المفقودين بمعزل عن المسار الشامل للعدالة الانتقالية، لما يحمله من أبعاد حقوقية، وسياسية، واجتماعية تتجاوز الأثر الفردي للمفقود لتشمل البنية المجتمعية بكاملها. لذا، تتطلب معالجته مقاربة شاملة ترتبط بالكشف عن الحقيقة، والمساءلة، وجبر الضرر، والإصلاح المؤسسي.
التحديات المؤسسية لتشكيل هيئة منفصلة للمفقودين
صدر المرسوم الرئاسي رقم 19 لعام 2025 القاضي بإنشاء “الهيئة الوطنية للمفقودين”، وإنشاء هيئة منفصلة تُعنى حصريًا بملف المفقودين في سوريا، بعيدًا عن البنية المؤسسية المتكاملة لمسار العدالة الانتقالية، يثير مجموعة من التحديات المؤسسية المعقدة التي قد تُضعف الاستجابة الحقوقية المتكاملة لمآسي الاختفاء القسري.
يُعد غياب التنسيق المؤسسي أحد أبرز المخاطر الناتجة عن الفصل الهيكلي لهيئة المفقودين عن لجنة الحقيقة وبقية مكونات العدالة الانتقالية. إذ لا تقتصر معالجة حالات الاختفاء القسري على توثيق الغياب الفيزيائي أو تحديد أماكن الاحتجاز، بل تتطلب تفاعلًا مباشرًا مع آليات المحاسبة، ولجان التعويض وجبر الضرر، إلى جانب دورها في إصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية المسؤولة عن ارتكاب الجريمة. إن الفصل التنظيمي قد يُنتج فجوة معرفية ومعلوماتية، ويحول دون تبادل الأدلة والبيانات والسجلات بين الهيئات المعنية، مما يؤدي إلى ازدواجية في التقييم، وضعف في تحديد المسؤوليات، وتعثر في سير العدالة.
يشكّل ملف المفقودين في سوريا اختبارًا حاسمًا لمدى جدية العملية الانتقالية في تحقيق العدالة والمساءلة، فهو في جوهره تجسيد لمأساة وطنية تتطلب مقاربة مؤسسية شاملة، تعالج الاختفاء القسري كجريمة متعددة الأبعاد: إنسانية، وقانونية، ومجتمعية
كما أن إنشاء هيئة جديدة خارج منظومة العدالة الانتقالية يستلزم بالضرورة تأسيس هياكل إدارية وتنظيمية منفصلة (تشمل فرق التوثيق، الدعم القانوني، الدعم النفسي، إدارة الشكاوى)، الأمر الذي يؤدي إلى رفع الكلفة البيروقراطية، ويخلق تضاربًا وظيفيًا مع الهياكل القائمة. فعلى سبيل المثال، ستتولى الهيئة الجديدة جمع إفادات الضحايا وتوثيق الحالات، وهو ما يتقاطع جوهريًا مع صلاحيات لجنة الحقيقة، ما يثير إشكالات معيارية وإجرائية، وقد يؤدي إلى تضارب في التوصيات والتقارير الرسمية، أو إلى ازدواج في تمثيل الضحايا وإيصال صوتهم.
ومن شأن هذا الانقسام المؤسسي أن يُضعف الرؤية الشاملة التي تستلزمها العدالة الانتقالية، ويؤخّر مساراتها التكميلية مثل التحقيق، والمحاسبة، وجبر الضرر، الأمر الذي ينعكس سلبًا على ثقة الضحايا بقدرة المؤسسات الجديدة على إنصافهم واستعادة حقوقهم.
إن التجربة السورية، نظرًا لتعقيداتها وتراكم الانتهاكات فيها، تفرض الحاجة إلى منظومة عدالة انتقالية متجانسة تضمن انسيابية العمل المؤسسي، لا إلى كيانات متوازية، بل إلى وحدات مترابطة ضمن هيكل موحد قادر على الاستجابة الجماعية لتحديات ما بعد النزاع.
الرؤية التي طرحتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان في نيسان الماضي اقترحت إلحاق هيئة المفقودين بلجنة الحقيقة، باعتبار ذلك ضرورة وظيفية ومنهجية تستند إلى طبيعة جريمة الاختفاء القسري بوصفها جريمة مركبة تتطلب فهمًا شاملًا لسياقاتها السياسية والمؤسسية، وهو الدور الذي تضطلع به عادة لجان الحقيقة في تجارب العدالة الانتقالية المقارنة. إن دمج هيئة المفقودين ضمن لجنة الحقيقة يضمن تكاملًا وظيفيًا حيويًا مع بقية مكونات العدالة الانتقالية، بما يشمل هيئات المحاسبة القضائية، ولجان التعويض وجبر الضرر، وبرامج تخليد الذكرى، وآليات إصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية.
فالكشف عن مصير المختفين يُعد شرطًا أساسيًا لمحاسبة الجناة، كما أن توثيق الانتهاكات يشكّل أساسًا لتحديد أحقية الضحايا في التعويض، ويسهم في معالجة الصدمة الجماعية الناتجة عن استمرار الغياب والإنكار. كذلك، فإن وجود وحدة مختصة بالمفقودين ضمن لجنة الحقيقة يُتيح الاستفادة من البنية التقنية، والخبرات القانونية، وآليات الإحالة المؤسسية المتوفرة، ما يعزّز من كفاءتها ويُجنب تكرار المهام أو تضاربها.
يشكّل ملف المفقودين في سوريا اختبارًا حاسمًا لمدى جدية العملية الانتقالية في تحقيق العدالة والمساءلة، فهو في جوهره تجسيد لمأساة وطنية تتطلب مقاربة مؤسسية شاملة، تعالج الاختفاء القسري كجريمة متعددة الأبعاد: إنسانية، وقانونية، ومجتمعية. إن إدماج هيئة المفقودين ضمن لجنة الحقيقة يُجسّد فلسفة العدالة الانتقالية القائمة على وحدة المسار وتكامل الأهداف. وإن إنجاح مسار العدالة الانتقالية في سوريا يقتضي تصميمًا مؤسسيًا متكاملًا، تُبنى فيه الهيئات على أسس تنسيقية وتشاركية واضحة تمنح المجتمع السوري فرصة لتجاوز إرث الغياب والإنكار.
المصدر: تلفزيون سوريا