
ما أن أعلنت واشنطن، مساء الجمعة، عن تعليق واسع للعقوبات على سوريا، حتى جرى على نطاق واسع تداول خبر بناء برج ترامب في دمشق. الأكثر “تفاؤلاً” تداولوا أنه سيكون البرج الأعلى في العالم، أما “الواقعيون” فأوردوا في الخبر اسم مستثمر بعينه هو الذي حصل على ترخيص من الشركة الأم وموافقة دمشق على البناء، بارتفاع 45 طابقاً. ومما يجعلنا نتوقف عند هذا أن عودة الحديث عن برج ترامب معطوفة على ما كان قد تداوله الإعلام في التكهنات قبيل اجتماع بين ترامب والشرع، حيث قيل إن الثاني سيستثير شهية الأول العقارية بمشروع برج في دمشق، ينضم إلى سلسلة الأبراج التي تحمل اسمه في العديد من مدن العالم.
الذكاء الاصطناعي تكفّل باقتراحات وتصاميم جرى تداولها للبرج العتيد، سواء من حيث الموقع أو الشكل العام أو الارتفاع. وفي الصور المتداولة يظهر البرج ضمن بقعة تمت معالجتها فنياً بما يتناسب معه، بينما بقيت دمشق على حالها كما هي في الصور الأصلية المعالَجة. هكذا يبدو الأمر شديد السهولة، وفي حده الأقصى لا يكلف سوى استملاك الأراضي وهدم الأبنية في بقعة ما، ثم إشادة البرج بسرعة حسب الأخبار المتفائلة، وتكون دمشق قد لحقت بدبي أو سنغافورة.
لن نتوقف هنا عند موضوع الطابع العمراني التقليدي لدمشق، وما إذا كان مناسباً تحويلها إلى مدينة أبراج. الأسئلة التي لها الأولوية تتعلق بواقعية الحديث عن إنشاء أبراج حالياً، سواء في دمشق أو حلب أو أية مدينة سورية. فالتسرّع، واستسهال الأمر، بعضُه مفهوم على قاعدة رغبة لدى السوريين في رؤية البلد قد استعاد عافيته، وأصبح يضاهي بلداناً أخرى على صعيد العمران. إلا أن الاستسهال ينطوي في جانب مهم منه على عدم إدراك الواقع الحالي المتردي بعد عقد ونصف من التدمير، وأيضاً بعد نصف قرن من الأسدية التي يُقال الكثير في هجائها، لكن من دون وعي شامل لأبعادها.
مما يتبادر إلى الذهن مثلاً هي ملائمة أنظمة الصرف الصحي في دمشق لإنشاء برج يرتفع 150 متراً، وفق أدنى التقديرات. فأي مقيم في المدينة، وغيرها من المدن السورية، لا بد أن يكون قد صادف يوماً متاعب شبكة الصرف الصحي التي بالكاد تتحمل الأبنية الحالية، بعدد محدود من الطوابق لا يضغط على التمديدات في نقطة بما يفوق استيعابها.
على صعيد متصل، شبكة الصرف الصحي الحالية، على علاتها، مناسبة لنمط استهلاك فقير. فمن المعلوم أن حصة الفرد من الماء في سوريا هي تحت معدل الفقر العالمي بمقدار الثلث تقريباً، ومدينة دمشق على نحو خاص تعاني شحّاً من المياه، ومعدل استهلاك الفرد منخفض جداً بسبب هذا الشحّ. وسيكون مضحكاً تخيّل إقامة برج من هذا النوع، بينما تصعب تغذيته بالمياه اللازمة، خصوصاً أن النمط السياحي المفترض لن يكون منضبطاً بالتقنين الإجباري الذي اعتاد عليه أهل المدينة مع شحّ المياه في العقدين الأخيرين.
بالطبع، في حال تأمين المياه يجب توفر الكهرباء لضخها، إلا أن مشكلة الكهرباء ليست عائقاً مع إمكانية استخدام مولِّدات خاصة بالمنشأة. لكن مع الكهرباء تبقى الخشية ماثلة من حدوث ماس كهربائي، وقد يتسبب بحريق كبير في الطوابق العليا مثلاً. الاحتمال غير مستبعد، وهناك في معظم المنشآت احتياطات للتعامل الأولي، أما الحرائق الأكبر فتحتاج منظومة إطفاء حكومية قادرة على الوصول إلى الطوابق العليا بسرعة وكفاءة. جدير بالتذكير أن سوريا خسرت مساحات واسعة من الغابات في السنوات الأخيرة، ورغم تفاني رجال الإطفاء في العديد من الحالات إلا أنهم يعملون وفق منظومة صارت شديدة التخلّف عمّا هو لازم وضروري.
في حالة الحريق المذكورة، قد يكون هناك عدد ضخم من المصابين الذين يحتاجون الإسعاف، ما يعني أيضاً ضرورة توفر منظومة إسعاف متطورة. التفاؤل وارد بعد رفع العقوبات بتحسن حال المنظومة الصحية ككل، وهناك استعداد لدى العديد من الدول والمنظمات لدعم المستشفيات الحكومية التي تدهورت خدماتها حتى منذ ما قبل الثورة. لكن التجهيزات الخاصة للوصول إلى الطوابق العليا قد لا تكون ضمن أولويات إعادة التأهيل، والوصول كالمعتاد بالسيارات يحيل إلى شبكة طرق تعاني بشكل مستمر من اختناقات مرورية، ومن المرجح زيادة الاختناقات مع كل دفعة سيارات تدخل البلد، ومع ازدياد الطلب غير العقلاني عليها في غياب رؤية متكاملة للنقل الجماعي، كما هو حال شبكات المواصلات في معظم البلدان.
ثمة في البلدان الثرية والمتقدمة مدن كبرى ليس فيها أبراج معمارية شاهقة، والأبراج السكنية غير الشاهقة الموجودة في بعض المدن لا تكون غالباً الخيارَ المحبَّب للسكان. لكن في كل الأحوال، بُنيت الأبراج الشاهقة في بلدان تمتلك بنية تحتية كافية لتخديم هذا النمط العمراني، لا على أرض رخوة خدمياً. وإذا دأب السوريون خلال عقود على التذمّر من الواقع الخدمي، ثم صاروا يجهرون بالنقد وبالهجوم على كل ما يخص حقبة الأسد، فمن المستغرب ألا ينتبهوا إلى التناقض بين أقوالهم، فيما لو كانت البنية التحتية (المتهالكة) صالحة لتركيب برج شاهق فوقها!
الأمر يتعدّى موضوع البرج العتيد إلى طريقة تفكير سائدة؛ فإذا كان هجاء حقبة الأسد محقاً، وهو محق بمعظمه، فسيكون من الواجب بعد سقوط بشار الشروع في فتح ملفات تلك الحقبة للنقاش العام، وعدم اعتبار السقوط بحد ذاته علاجاً سحرياً للأعباء الموروثة على كل الأصعدة. الفجوة بين الواقع والمُرتجى لا تُردم بالتوقعات المبالَغ فيها حول الاستثمارات الضخمة، وحول المستثمرين الذي ينتظرون رفع العقوبات ليتسابقوا على مزايا الاستثمار في سوريا من دون أي توقف عند تردي الواقع الخدمي، وتردي البنية التحتية التي تحتاج إلى رؤية شاملة تأخذ في الحسبان التطورات المستقبلية، ويحتاج تنفيذها إلى سنوات طويلة حتى في بلدان تمتلك ما لا تمتلكه سوريا من إمكانيات.
واحدة من كوارث سوريا الموروثة والمستمرة هي في آلية التفكير القائمة على الاستسهال، والتي تشبه إلى حد كبير إجراء التعديلات المرغوب فيها بواسطة الذكاء الاصطناعي. واقعياً، يدعم الآلية ذاتها تركُ الأمور برمّتها للسلطة، ومن ثم الدفاع عما تفعله من دون النقاش والخوض ولو في الخطوط العريضة لأي شأن عام. قضايا مثل البنية التحتية والخدمات، أو مثل النظام الصحي ونظام المواصلات العام والنظام التعليمي والتأهيل المهني… هذه كلها متروكة تماماً للسلطة، وغير مطروحة لنقاش عام.
بعبارة أخرى، لا يبدو أن السوريين يتطلعون إلى المشاركة التي يُفترض أنهم ناضلوا من أجلها. مع الذكاء الاصطناعي يمكن بناء برج ترامب في غضون دقائق، والشعور بالثقة المطلقة بأن كل شيء ممكن وعلى ما يرام، فلِمَ العناء؟
المصدر: المدن
نعم الأبراج ليس دليل التقدم والتحضر ، ولكن إحداها، لأن الأبراج تتطلب بنية تحتية ملائمة لمستلزمات الأبراج، فهل مشروع “برج ترامب” هي عربون للرئيس ترامب لفتح شهيته للإستثمار العقاري بسورية؟ أم مكافئة له ؟ أم ماذا؟؟