عن تبرير فاروق الشرع في مذكّراته عدم انشقاقه

عمر كوش

يروي نائب الرئيس وزير الخارجية السوري الأسبق، فاروق الشرع، في كتاب مذكراته (2000 – 2015)، الصادر أخيراً (2025) عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تفاصيل عن أحداث هامة ومفصلية في التاريخ السوري الحديث، وكان مشاركاً فيها بقوة، وأثّرت مفاعيلها بعمق في حياة غالبية السوريين، حيث حفرت عميقاَ في ذاكرتهم، بل وتركت ندباً وجراحاً في ذاكرتهم الجمعية، يصعُب أن تندمل خلال سنين طويلة، وترتب عليها خرابٌ في النسيج الاجتماعي السوري، ونشوء مظلوميات عابرة للطوائف والمكونات الاجتماعية السورية، كونها طاولت غالبية ناسها. وتشمل المذكّرات روايةً لأحداث فترة ما بعد توريث الحكم لبشّار الأسد بعد وفاة والده، منها اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، والاتهامات بتورّط نظام الأسد الابن فيها، والتي أفضت إلى اضطرار هذا النظام إلى سحب جيشه من لبنان، والأحداث التي عصفت بسورية بعد اندلاع الثورة السورية منتصف مارس/ آذار 2011.

تأتي مذكرات الوزير الشرع بعد أكثر من عقد من الغياب والصمت، لتكسر جدران الصمت التي اضطر للركون إليها، لكن ما كتبه فيها لا يخرُج عن منطق السير الذاتية عموماً في التمركز على الذات، وتضخيم دوره في بعض أحداثٍ عايشها. ولعلّ ما يميّزها أنها جاءت على لسان شخص فاعل في تركيبة نظام الأسد، وتكشف من خلال ما يرويه بعض ما كان يدور في كواليس نظام الأسد ودهاليزه.

بداية، ما يلفت النظر هو اللغة الباردة المقشرة التي يسرد بها فاروق الشرع تلك الأحداث الساخنة، إلى جانب محاولته إبراز دوره في التأثير عليها، مستنداً إلى أن ما يكتبه يمثل روايته، أو بالأحرى مذكّراته الشخصية، المحكومة بوجهة نظره، وبما يراه عن نفسه وعن أدواره في المراحل والأحداث التي عاصرها، انطلاقاً من تجاربه الخاصة، لكن ما كتبه يمسّ، في جوهره، حياة ناس كثر، وتقتضي الحصافة أن يكون شفّافاً، لأنه يسهم في تحويل الذاكرة المخفية إلى ذاكرةٍ علنيةٍ، وجعلها في متناول الجميع.

طالما لم يفكر الشرع قط في الانشقاق عن نظام الاستبداد الأسدي، فإن اعتراضه على طريقة تعامل النظام مع المحتجين السلميين لا يرتقي إلى تسجيل موقف ضد ممارسات النظام الأسدي

تكمن أهمية ما يرويه في تقديمه شهادة تاريخية للأجيال السورية، وللمؤرّخين وللباحثين والدارسين، وإن كان لا يرتقي إلى مصاف جردة حساب أو تقييم لما قام به نظام الأسد من انتهاكات وحشية بحقّ غالبية السوريين، خاصة وأنه لم يقدّم أي نقد كاشف لفظائع تلك المرحلة المفصلية والحسّاسة من تاريخ سورية. ومع ذلك، لمذكّراته أهميتها من حيث إنها جاءت على لسان مسؤول كان فاعلاً في تركيبة نظام الأسد، ومن كونها تقدّم شهادة هي الأولى من نوعها على ممارسات النظام وسياساته، وكيفية صنع القرار.

يحاول الشرع تبرير عدم انشقاقه عن نظام الأسد، الذي كان جزءاً منه، بل ومسؤولاً فاعلاً فيه طوال سنوات مديدة، ولا يجد سوى المكابرة والمراوغة في القول إنه لم يفكّر إطلاقاً في الانشقاق عن النظام، على الرغم من اعتراضه على نهجه الدموي في التعامل مع المحتجين السوريين، والسبب ليس لادعائه أنه يحب بلده “أكثر من الذين يموتون من أجله”، وفي ذلك مبالغة لا يمكن التحقق منها، بل لأنه متيقن من أن “الدول التي يمكن أن أنشق إليها، لن تجعل سورية أفضل حالاً”. وكأن انشقاقه يجب أن يجيّر بالضرورة لصالح الدولة التي ينشق إليها، التي ليس من مهمتها أن تجعل سورية أفضل حالاً، الأمر الذي يعني أنه طالما لم يفكر قط في الانشقاق عن نظام الاستبداد الأسدي، فإن اعتراضه على طريقة تعامل النظام مع المحتجين السلميين في بداية الثورة السورية لا يرتقي إلى تسجيل موقف ضد ممارسات القتل والمذابح والمجازر التي كان يرتكبها النظام الأسدي، وبالتالي، كان اعتراضه ليناً إلى درجة أنه لم يدفعه إلى تسجيل موقف وطني ضد قتل أهله وأبناء وطنه. بمعنى أن موقفه الاعتراضي لم يرتق إلى مصاف موقف واضح ضد المجازر الوحشية التي ارتكبها النظام، خاصة بعدما أدرك، حسبما يقول، إن النظام سيمضي بنهجه “حتى تدمير البلد”، فضلاً عن إدراكه أنه كان سبباً في “اغتيال الحوار السوري – السوري”، بعد أن “أفشل الحوار السوري – العربي”.

يُحسب لفاروق الشرع أنه كان من القلائل داخل نظام الأسد الذين دعوا إلى الحوار وتفضيل الحل السياسي داخل النظام

لم يجانب الحقيقة فاروق الشرع حين اعتبر أن ما قام به بشار الأسد من دمار وقتل “فاق فعلياً ما خلفته جحافل هولاكو من خراب في بلاد الشام”، ثم حينما وصفه بأنه “كان الرئيس الغارق في حب الذات، لا يستطيع سماع سوى كلمات المديح”، والأمر ينسحب على قوله إن بشّار الأسد صاحب “بعض الميول السيكوباتية، وهي حالة نفسية يفتقد أصحابها كليّاً المشاعر، فلا خوف من العواقب، ولا شعور بالندم تجاه الخطأ، ولا تفاعل مع آلام الناس أو هموم المحيطين به”. لكن كل هذه الأوصاف تناقض تماماً ما قاله في الجزء الأول من مذكّراته: “الدكتور بشار… لديه رصيد شخصي وجملة مؤهلات تأتي في مقدّمها رغبته المعلنة في الإصلاح والتحديث” (الرواية المفقودة، ص 457)، وذلك خلال مشاركته حفلة توريث الحكم المخزية، التي شارك فيها بفعالية، فضلاً عن أنه اعتبر التوريث “سيكون مخرجاً آمناً وبديلاً سلمياً من صراع دام يمكن أن ينفجر إذا أخطأنا الاختيار لأن كل عناصره ما زالت في قيد الحياة”، وكأن توريث بشّار الأسد حَدثَ لأنه كان الشخص المنقذ لسورية من صراع دام مقبلة عليه، وفقاً للمنطق التبريري الكاذب الذي كان يسوّقه أزلام النظام. والأنكى أن الشرع لا يتحدّث عن خطأ تقديره وموقفه عندما يتحدّث عن وعيه وتنبيهه المبكرين من أن ما يفعله بشّار بالسوريين سيفضي إلى كارثة كبرى بسورية، ووصل به الأمر إلى حد السذاجة حين أبدى استغرابه من أن أصحاب “النواة الصلبة” في النظام “يتصرّفون بمقدّرات الحزب الحاكم والدولة وكأنهم ورثتها الحصريون”، ولم يتساءل من ساهم في وصولهم إلى ذلك؟

يلفت النظر فيما كتبه الشرع محاولة تبرير مواقفه، والاكتفاء، في معظم الأحيان، بتحميل المسؤولية كاملة لبشّار الأسد، فهو من يقرّر، وهو من يرفض، وهو من يُصدر كل الأوامر، بينما يعلم معظم السوريين والمهتمين بالشأن السوري أن هناك دورا لأفراد عائلة الأسد، ولاسيما أخيه ماهر، في كل ما قام به، إضافة إلى دور قادة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية. ولا يعدم الأمر وجود شهود زور معه، وتضم قائمتهم كبار المسؤولين في الدولة وحزب البعث، بمن فيهم فاروق الشرع نفسه، الذي خدم النظام وزيراً للخارجية من 2000 ولغاية عام 2005، ثم نائباً لرئيس الجمهورية حتى عام 2014.

على الرغم من ذلك كله، يُحسب لفاروق الشرع أنه كان من القلائل داخل نظام الأسد الذين دعوا إلى الحوار وتفضيل الحل السياسي داخل النظام، خصوصاً بعدما تبيّن أنه ماضٍ في الحل العسكري الدموي من دون تردّد، وسيقوم “بالعمل من تحت الطاولة، لأن ذلك سيعطي نتائج أفضل”. وقد حاول جاهداً تقديم النصيحة لصاحب القرار، لكنها لم تكن مجدية، خاصة بعد أن باتت “القوة الخفية” في النظام هي من يتحكم بالقرارات، لذا لم يجد سبيلاً سوى مغادرة مكتبه، والاعتكاف في المنزل، أي أنه آثر الركون إلى موقف سلبي حيال ما يجري.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى