من دبلوماسية إلى علاقات عامة.. كيف تحوّلت السياسة إلى عرض إعلامي؟

بشار الحاج علي

في عالم اليوم، حيث تلتقي السياسة بالإعلام، وتتشابك الدبلوماسية مع العلاقات العامة، أصبح من الصعب تحديد الفارق بين المفاوضات السياسية الحقيقية وبين العروض الموجهة للجمهور.

فكل لقاء سياسي، سواء كان بين قادة دول أو ممثلين رسميين، لا يُشَاهَد فقط بوصفه لحظة لتبادل الأفكار والتفاوض على القضايا، بل هو أيضًا جزء من عملية تسويق سياسية، تُعرض بعناية على الجمهور في جميع أنحاء العالم، ولكن هل كل ما يُعرض هو الحقيقة، أم أن هناك ما يُراد لنا أن نصدّقه؟

في الماضي، كان الدبلوماسيون يُعتبرون خبراء في العمل خلف الكواليس، حيث تُدار المفاوضات في الغرف المغلقة بعيدًا عن الأنظار. كانت السياسة تُمثّل شيئًا معقدًا، لا يتم الكشف عنه إلا بعد التوصل إلى اتفاقات نهائية.

يواجه الدبلوماسيون واقعًا مختلفًا تمامًا، لا يكفي أن يُحسنوا التفاوض في الغرف المغلقة؛ بل يجب عليهم أيضًا أن يكونوا ماهرين في تسويق هذه التفاهمات للعالم.

كان الهدف هو تحقيق النتائج، وتحقيق التوافق بين الأطراف المعنية، بغض النظر عن الطريقة التي يُعرض بها هذا التوافق للجمهور، وكان السفير في ذلك الحين يتنقل بين العواصم بهدوء، يختار كلماته بعناية شديدة، ويؤكد على أهمية السرية والحذر، لم تكن الصورة هي الأهم، بل ما يحدث خلف الكواليس.

لكن في العصر الحديث، تغيّر كل شيء.. أصبحت السياسة لا تقتصر على الفعل في حد ذاته، بل تُقدَّم أيضًا كعرض إعلامي.

والساسة اليوم ليسوا مجرد صناع قرارات، بل هم أيضًا “نجوم” في عرض سياسي تتم تغطيته على مدار الساعة، هذا التحول جعل الفواصل بين الدبلوماسية والعلاقات العامة أكثر ضبابية، وأدى إلى تحول مفاجئ في كيفية تقديم السياسة للجمهور.

في الوقت الراهن، يواجه الدبلوماسيون واقعًا مختلفًا تمامًا، لا يكفي أن يُحسنوا التفاوض في الغرف المغلقة؛ بل يجب عليهم أيضًا أن يكونوا ماهرين في تسويق هذه التفاهمات للعالم.

الصور، التصريحات العلنية، والتسريبات الإعلامية أصبحت جزءًا من اللعبة السياسية اليومية فكل لقاء دبلوماسي لم يعد يُنظر إليه فقط باعتباره فرصة لإيجاد حلول للمشاكل، بل كفرصة لتوجيه رسائل معينة للجمهور، ورسائل تُترجم في كثير من الأحيان إلى صور تُعرض على الشاشات.

وكمثال على ذلك، فإن المصافحة بين رئيسين أو ابتسامة متبادلة على المنصة يمكن أن تعني للمتابعين الكثير، حتى وإن كانت المفاوضات نفسها ما زالت في مراحلها الأولى، أو حتى في حالة توقف مؤقت.

لم يعد المشهد الدبلوماسي محصورًا فقط في المحادثات المباشرة أو في الاجتماعات الخاصة،أصبح “التسويق السياسي” عنصرًا أساسيًا في أي اتفاق أو علاقة دولية.

اليوم، يكفي أن يتم تصوير لقاء سياسي بعناية ليصبح مادة إعلامية تلقى رواجا على وسائل الإعلام، بغض النظر عن فحوى الاجتماع، صورة واحدة لرئيسين يتصافحان قد توحي بأن العلاقات بين دولتين قد تحسنت، حتى وإن كانت المفاوضات الحقيقية لا تزال تراوح مكانها.

الصور أصبحت أداة في يد السياسيين، لكنها أيضًا أداة لخدمة مصالحهم السياسية، فمثلاً تجد أن العديد من الدول تستخدم صور القمم الدولية أو الاجتماعات الثنائية ليس فقط لتمثيل الاتفاقات، بل لتمرير رسائل ضمنية إلى الشعب المحلي أو إلى المجتمع الدولي. فتُصبح هذه الصور بديلاً عن الوقائع، وتُقدَّم كدليل على نجاح السياسة أو الدبلوماسية، رغم أن الجوهر قد يكون مفقودًا.

هذه “العروض السياسية” تشمل أيضًا التسريبات الإعلامية، التي قد لا تكون عفوية كما يظن البعض، بل قد تكون موجهة ومدروسة.

يتم تسريب معلومات أو صور معينة لتوجيه الرأي العام أو تحويله أو لاختبار ردود الفعل قبل اتخاذ قرارات معينة. ما يُعتقد أنه “مصدر دبلوماسي مطّلع” قد يكون ببساطة أداة أخرى في سياق علاقات عامة مُخطط لها بعناية.

التسريبات التي تخرج من “مصادر رسمية” لا تُنشر دائمًا لمجرد كشف الحقائق، بل أحيانًا لخلق انطباع معين أو لتحفيز الجمهور على التحليل والمناقشة.

وفي سياق آخر، تأتي المؤتمرات الصحفية كجزء من هذه اللعبة، فالعديد من التصريحات التي تُقدّم في هذه المؤتمرات لا تعبّر بالضرورة عن الحقائق الكاملة أو عن المواقف النهائية للأطراف المعنية، وبدلاً من ذلك، يتم ترتيب الكلمات بعناية لتوجيه الانطباعات بطريقة معينة. تصريحات مثل “نحن نعمل من أجل السلام” أو “لقد حققنا تقدمًا هائلًا في المفاوضات” هي في بعض الأحيان مجرد “شعارات” تهدف إلى إبقاء الجمهور في حالة من التفاؤل، حتى وإن كانت المفاوضات نفسها قد تكون في وضع معقد أو متوقف.

لكن وراء كل هذا التسويق السياسي، تكمن حقيقة ربما تكون أكثر تعقيدًا مما يُعرض على السطح، فبينما يُشاع أن العلاقات بين دولتين قد تحسنت من خلال صور مبهجة في الصحف، قد تكون هناك قضايا معلقة وصعوبات غير مرئية ما زالت تعترض طريق الحلول. لكن الجمهور، في كثير من الأحيان، لا يرى إلا الصورة الملتقطة، ويظن أن الأمور قد حُسمت.

ومع مرور الوقت، أصبح من الصعب على الجمهور التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مُصطنع ، إذاً أصبح السؤال الأهم ليس فقط ما يحدث وراء الأبواب المغلقة، بل كيف يُعرض هذا الحدث على الشاشات؟ وإذا كنا نتلقى هذا الكم الهائل من الصور والتصريحات، كيف لنا أن نميز بين الحقيقة وبين مجرد لعبة العلاقات العامة؟

قد يكون الفارق بين السياسة الحقيقية والسياسة المدارة من خلال العلاقات العامة هو الفارق بين الواقعية والمسرحية.

في النهاية، لا ينبغي لنا أن ننسى أن السياسة، في جوهرها، لا تتمحور حول ما نراه في وسائل الإعلام، بل حول ما يحدث في الواقع ، والقدرة على التفريق بين الصورة والواقع هي التي تحدد مدى فاعليتنا كمواطنين في التأثير على العملية السياسية، فكلما أصبحنا أكثر وعيًا بحقيقة التسويق السياسي الذي يشوّه الحقائق أحيانًا، كلما أصبحنا قادرين على طرح الأسئلة الصحيحة والبحث عن الحقيقة وراء الصورة التي يُراد لنا أن نراها.

إذن، قد يكون الفارق بين السياسة الحقيقية والسياسة المدارة من خلال العلاقات العامة هو الفارق بين الواقعية والمسرحية.

في عصر الصورة، قد لا تكون الحقيقة هي ما نراه، بل ما نبحث عنه وراء ما يُعرض لنا.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى