عندما تتحوّل أل التعريف فتنةً دستوريةً

سميرة المسالمة

تبدو الصراعات السورية قد انتقلت من حيّز الصراع مع النظام إلى الصراع على ترتيبات البيت الداخلي. وهذا، رغم كلّ التوتّر الحاصل، يعدّ حالةً إيجابيةً تعيد الكرة إلى ملعب الحراك المجتمعي، وتؤكّد أهمية التكتلات المدنية أو الحزبية في تنظيم عملية النقد والبناء عليها قوّةً ناعمةً في سورية. فالسوريون، الذين ينطلقون من لحظة تاريخية هي يوم انطلاقة الثورة في 18 مارس/ آذار 2011، في وقت كان يحكم فيه سورية واحد من أعتى الأنظمة القمعية، انقسموا بين موالين لنظام بشّار الأسد ومعارضين له، وضحّوا من أجل حرّيتهم بمئات آلاف من الشهداء والمعتقلين، كذلك تهجّر نحو نصف سكّان سورية لهذا السبب. ومع ذلك، يستطيعون بالتأكيد أن يجعلوا من يوم النصر، 8 ديسمبر/ كانون الأول 2025، يوم وحدتهم وبداية تأسيسية لسورية حرّة ومواطنين أحرار.
لا تضرّ وحدةَ السوريين خلافاتُهم بشأن أيّ أمر تشريعي أو تنفيذي أو حتى إداري، باعتبار أن القضية الأساسية التي توافق عليها الشعب هي فرحة خلاصهم من النظام الأسدي. ولهذا، الخلاف الحاصل، واحتدامه في وسائل التواصل بين مكوّنات الشعب، بدءاً من طريقة الحوار الوطني ولجنته التحضيرية، وآلية العمل القاصرة التي انتابته، وعدم قدرته على لمّ شمل كلّ المكونات السورية تحت عباءته، ووضوح قصور معرفته بالسوريين، مروراً بموضوع اللجنة الدستورية ومحدودية تمثيلها، وما أنتجته من مسوّدة دستور وقّع عليها الرئيس أحمد الشرع، والانتقادات التي طاولت بعض موادّه بتهم الإقصاء والتطرّف والغموض وعدم المنطقية… ذلك كلّه لا ينبغي أن يكون سبباً لانقسامات أعمق.

عوّل السوريون على أن يحسم الإعلان الدستوري القضايا الأساسية المختلف عليها

وإذا مرّت الانتقادات التي وُجّهت للحوار الوطني سريعاً، فذلك لأن السلطات أعلنت مسبقاً أن مُخرجاته غير ملزمة، أي أنها مجرّد عناوين للحوار “لا تسمن ولا تغني من جوع”. إلا أن الإعلان الدستوري يمثّل منظومة الحياة السورية، وحقوق المواطنين، على اختلاف انتماءاتهم الدينية والقومية والإثنية والعرقية، حتى قيام دستور جديد. فخلال السنوات الخمس التي تؤسّس لسورية الجديدة، ستُعتمد مواد الإعلان، ما يعني أن كلّ انتقاد لها قد يمثّل عثرةً في طريق المتبنّين لهذه الانتقادات، وقد تتحوّل واحدةً من أسباب استمرار النزاع على خريطة سورية ووحدة أرضها وجيشها، والعدالة في توزيع ثرواتها.
صحيحٌ أن رئيس اللجنة، عبد الحميد العواك، متحدّث “دبلوماسي” في وسائل الإعلام، وهو يخفّف من التوتّر الذي يزيده بعض أعضاء اللجنة بتصريحات صادمة ومُستغرَبة من قانونيين، وإذ يؤكّد (في أكثر من لقاء متلفز) اعتمادهم على الدساتير السورية السابقة منعاً لإحداث فوضى واختلاف بشأن قضايا معينة، ومنها دستور 1950، فإنه لا يوضّح، مثالاً، لماذا لم تُعتمَد المادّة الأولى منه، وهي الأكثر أهمية، التي سعى السوريون في ثورتهم من أجلها، وتخفّف من حدّة المواد التي تليها. فالمادّة الأولى منه تنصّ: “سورية جمهورية عربية ديمقراطية نيابية ذات سيادة تامّة. وهي وحدة سياسية لا تتجزأ ولا يجوز التخلّي عن جزء من أراضيها. والشعب السوري جزء من الأمة العربية”. كان يمكن لهذه المادة أن تمنع التأويلات اللاحقة وتمنح الأمل بتمثيل نيابي لكلّ مكوّنات الشعب السوري لتحقيق الحرّيات المطلوبة للأفراد والجماعات.
وعلى الرغم من أهمية مواد الإعلان الدستوري، الذي جاء على عجل كما الحوار الوطني، إلا أنه لم يلحظ الاتفاقيات التي عقدها الرئيس أخيراً مع مكوّنَين أساسيَّين من الشعب السوري (الكرد والدروز)، وهو ما فتح المجال لتأويلات تتعلّق بالانقلاب على مضمونهما، رغم ما ساد الأوساط السورية من ارتياح كبير لتوقيع الاتفاقيتَين وانعكاساتهما على استقرار سورية وتنميتها. وكان يمكن استيعاب الرغبة الجامحة لدى أطراف سورية بالخروج من الدائرة المغلقة للنظام المركزي، الذي خبروه خلال حكم الأسد، وارتباطه الوثيق بالفساد، وتهميش المحافظات البعيدة من العاصمة، عبر تهدئة المحتجّين، والتأكيد أن العمل بالنظام المركزي الحالي مؤقّت، ريثما تُعدّ بنيةٌُ تحتيةٌ تسمح بتعديله في شكل آخر أو أقلّ مركزية.

تعطيل موعد السماح بترخيص الأحزاب يؤدّي إلى تهميش المشاركة الشعبية

وفي السياق ذاته، اعتماد المادة الثالثة من الإعلان على حرفية ما جاء في دستور 1950، أن “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع” من دون الإبقاء على نصّ المادة الأولى من الدستور نفسه، التي تنصّ على “النظام الديمقراطي النيابي”، جعل التخوّفات مشروعة. إذ إن “أل” التعريف في عبارة “المصدر الرئيس” قد تعني إغلاق الأبواب أمام الاستفادة أو الاستعانة بمصادر التشريع الأخرى، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو ما يطمئن شرائح كبيرة من السوريين، ويضمن حيادية الدولة تجاه الأديان والمذاهب كلّها، وهنا لا أريد أن أدخل في موضوع حقوق المرأة التي اختصرت في حقّ التعليم والعمل، ما يعني العودة إلى العمل من أول الطريق لحقوق كثيرة يصعب التنازل عنها.
عوّل السوريون على أن يحسم الإعلان الدستوري القضايا الأساسية المختلف عليها، وأن يكون جازماً في صياغته مانعاً للتأويل، وضامناً فصل السلطات، من دون أن تعتريه إشكالات مثل تعيين أعضاء المحكمة الدستورية، وغياب مسألة مساءلة الرئيس، وموعد إقرار قانون الأحزاب. ولهذا تحديداً أهميته في المرحلة الانتقالية، التي تؤسّس لانتخابات حرّة واختيارات موضوعية لممثليها في مجلس الشعب وعلى كرسيّ الرئاسة. وهذا يعني أن تعطيل موعد السماح بترخيص الأحزاب يؤدّي إلى تهميش المشاركة الشعبية، كذلك يجعل تجمّعاتها الحالية تحت طائلة المساءلة القانونية. قد يتحوّل حرف واحد، أو تعريف زائد، معضلة دستورية أو قانونية، ما يجعل الحاجة إلى الخبرات القانونية الدستورية تفوق الحاجة إلى توسيع تمثيل “المكوّنات”. وقد يكون من المستغرب أن العودة إلى دستور 1950، أي الرجوع 75 عاماً تحقّق للسوريين حرّيتهم المطلوبة، أكثر من إعلان دستوري أُعدّ في زمن الذكاء الاصطناعي وبرامج الدردشة الذكية والمجّانية، والأكثر أهميةً أنه أُعدّ بعد يوم النصر الكبير.

 

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى