
تتطلّب الأحداث الطائفية في الساحل السوري من السلطة تحرّكاً عاجلاً، وقراراتٍ ومواقف شجاعة، من أجل الانتقال بحال البلد في خطوة مهمّة إلى الأمام، من حال الفوضى إلى استعادة الدولة. ويجب أن تشكّل التعدّيات والتجاوزات ضدّ المدنيين من أبناء المنطقة فرصةً لتراجع السلطة أساليب عملها، وطرق تفكيرها، قبل أن تفقد الرصيد الشعبي الذي حازته بفضل إسقاط بشّار الأسد، وتخليص البلد من نظام الجريمة. وأول خطوة مطلوبة منها أن تراجع نفسها، وتغيّر منهجها في بناء مؤسّسات الدولة، سياسياً وأمنياً وإعلامياً، والعمل فوراً على الخروج من الدائرة الضيّقة التي رسمتها حول نفسها، منذ وصولها إلى دمشق في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024.
رسالة الأحداث واضحة جدّاً، أن الوضع السوري يعاني من احتقان طائفي شديد، ولا يحتمل قيادة البلد انطلاقاً من ردّات الفعل، بل من خلال سياسات تقوم على الاعتراف بالواقع، ومواجهته بشجاعة ومن دون تردّد، وليس على أساس أنه انتقل من ملكية آل الأسد إلى جهات جديدة باتت تملك الحقّ في تصنيف باقي السوريين وفق معايير مذهبية ومناطقية، ومحاسبة بعضهم على جرائم ارتكبها النظام البائد على أسس طائفية.
على نحو عاجل، على السلطة معالجة آثار الأحداث على نحو جادّ ومحترف وشفّاف، ليس انطلاقاً من النتائج فحسب، بل من الأسباب أولاً، كيلا تتكرّر في هذه المنطقة، ومناطق أخرى مرشّحة للانفجار، ولا سبيل إلى ذلك سوى الانطلاق بتطبيق العدالة الانتقالية، بداية من محاكمة الذين ارتكبوا جرائمَ ضدّ المدنيين وقوات الأمن في الساحل السوري خلال الأيام الماضية على قدم المساواة، وهذا شرطٌ ضروريٌّ حتى يقتنع السوريون كلّهم بالعدالة حكماً فصلاً في كل قضايا المرحلة الماضية، التي تعود إلى عقود.
على السلطة الحالية أن تضع في صدارة الأولويات محاكمة المجرمين واللصوص، الذين ارتكبوا جرائم قتل وسرقة في الساحل، وكذلك الفلول الذين حاولوا إعادة نظام آل الأسد، علناً، ومن دون استنسابية، أي أن تشمل العسكريين والمدنيين، المحسوبين على الفصائل والفلول، الأفراد والقادة، حتى تحقّق الهدف المنشود، لأن إحقاق العدالة هو المقياس الأوّل لمصداقية السلطات الجديدة، وهذا يوجب التحلّي بالشفافية والحزم، حتى تكون الخطوات مقنعة، وألا يتم السكوت عن مرتكبي التجاوزات، كما حصل في أحداثٍ سابقة قبل انتصار الثورة، قام بها أفراد وقادة من ممّا كان يعرف بـ”الجيش الوطني”، ومنها ما جرى ضدّ الكرد في عفرين. وإذا لم تحاسب السلطة الجديدة مرتكبي الاعتداءات والتجاوزات، فإنها سوف تخسر أغلبية السوريين، وتقدّم لنفسها صورة سيئة للعالم. ولهذا سوف يشكّل إعلان نتائج التحقيق بتعدّيات الساحل نقطة فصل.
باتت السلطة أمام فرصة ثمينة كي تؤسّس مسار العدالة الانتقالية، انطلاقاً من محاكمة مرتكبي التجاوزات، وفلول العهد البائد، وتعزّز التفاف السوريين حول الدولة السورية، التي ينبغي بناؤها على أسس العدالة والتشاركية والديمقراطية، وقد سبق لسورية بطوائفها كلّها أن عبّرت عن ذلك في لحظة إسقاط المعتوه بشّار الأسد، وعائلته من المجرمين واللصوص. ويجب عدم التهاون بمسألة تنظيف البلد من وجود الذين يتلقّون الدعم من إيران وغيرها، وتفويت الفرصة على مشروع التقسيم الذي تتبنّاه إسرائيل، وتنادي به علانيةً، من خلال ادّعاء حماية مكوّنات سورية بعينها، ويشكّل الاتفاق بين الدولة السورية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، إنجازاً مهمّا يقطع الطريق على المخطّط الإسرائيلي، وقد جاء في لحظة سياسية حسّاسة بعد أحداث الساحل، ليوجّه رسالة إلى الخارج بأن سورية عصيّة على التدخّلات الخارجية، حينما تكون موحّدةً داخلياً.
المصدر: العربي الجديد