نحو عدالة انتقالية ليست انتقامية

عبدالله تركماني

تُعتبر العدالة الانتقالية خياراً هاماً بعد التغيير في الدول التسلطية، كما هي حالة سورية، مما يستدعي تطبيق آلياتها الممكنة للوصول إلى مصالحة وطنية شاملة.

إذ إنّ تجاوز مرحلة الاستبداد وإعادة السلم الأهلي ووحدة المجتمع يتطلبان تهيئة النفوس بردِّ المظالم وإعادة الحقوق لأصحابها، والتعويض للمتضررين، والكشف عن مصير المفقودين، وتحديد المسؤوليات، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية.

إنّ انتهاكات حقوق الإنسان في سورية كثيرة ومتنوعة، وكان أبرزها جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي ارتكبتها قوات النظام السوري وداعميه الروس والإيرانيين

ولكي يتم تسهيل مهمات المحاسبة يمكن تشكيل هيئة مستقلة للحقيقة والعدالة، تضم ممثلين عن مختلف القطاعات ذات الصلة بالعدالة، ويكون لهذه الهيئة شخصية اعتبارية وضمان استقلالها المالي والإداري. وأكثر ما يهدد هذه العدالة هو العمى الأيديولوجي لدى البعض والتعصب الفئوي لدى البعض الآخر، اللذان ينذران بنشوء بؤر متفجرة للنزاعات الطائفية أو القومية، ما يفسح في المجال أمام احتمال إسقاط مشروع التغيير السياسي في أتون الفوضى والصراع الأهلي.

إنّ انتهاكات حقوق الإنسان في سورية كثيرة ومتنوعة، وكان أبرزها جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي ارتكبتها قوات النظام السوري وداعميه الروس والإيرانيين، وكذلك بعض مجموعات المعارضة المسلحة، خلال سنوات الثورة السورية. الأمر الذي يجعل مسألة البحث في أقوم المسالك للتعامل مع إرث الماضي مطلوباً، إذ يعتبر موضوع الإفلات من العقاب لمرتكبي الجرائم أحد قضايا تجارب الانتقال السياسي، ومما قد يساعد على ذلك أنّ رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع أكد على ” إطلاق مسار عدالة انتقالية “.

مع العلم أنها، طبقاً للمركز الدولي للعدالة الانتقالية “مفهوم استثنائي للعدالة يختلف عن المفهوم المتعارف عليه، من حيث الأهداف والقواعد والمعايير والهيئات والآليات، لأنّ الظروف الاستثنائية تفرض معالجة استثنائية، لا تصحُّ معها قواعد العدالة العادية وآلياتها”. حيث ارتكز المفهوم على كشف الحقيقة وجبر الضرر وتعويض الضحايا، من خلال محاكمة مرتكبي الجرائم، والاعتراف بالوضع الخاص للضحايا. والمشاركة في عملية الإصلاح المؤسساتي الهادفة إلى دعم سيادة القانون والحقوق الرئيسية، وإقامة الحكم الرشيد.

إذ ينطوي المفهوم على معنيين هما: العدالة والانتقال، من خلال تأسيس لجان الحقيقة في كل المحافظات السورية، على أن تعمل تحت إشراف الهيئة المستقلة المركزية، بهدف ضمان – حسب مشروع اليوم التالي – محاكمة من كان مسؤولاً عن الجرائم، وتقصّي الحقائق، والتعويضات، وتخليد الذكرى، والإجراءات التأهيلية التي من ضمنها الدعم النفسي والاجتماعي.

إنّ العدالة الانتقالية في سوريا تهدف إلى إطلاق المصالحة المجتمعية الشاملة، لكي تتمتع الأجيال المقبلة ببيئة اجتماعية سليمة، غير مشوّهة بأحقادٍ أو مساعٍ للثأر.

وهكذا، في سياق المرحلة الانتقالية ستشغلنا أسئلة كثيرة وحاسمة في سورية، من أهمها: ما نوعية الجرائم والانتهاكات التي يجب المساءلة عنها؟ ثم ما هي مستويات المسؤولية؟ وما نوعية المسؤولية: هل هي جنائية أم مدنية؟ وما الفترات الزمنية التي تحتاجها عملية المساءلة والمحاسبة؟

ولأنّ العدالة الانتقالية ليست انتقامية من المهم تشكيل لجان للسلم الأهلي والمصالحة الوطنية، تتوجه إلى المناطق التي شهدت إشكاليات طائفية أو قومية، في محاولة لإعادة الثقة بين مكوّنات المجتمع السوري. وفي كل الأحوال، لابدَّ من التشديد على مبدأ ربح الجميع، بمعنى أنّ المسؤولين السابقين، ممن لم تتلطخ أياديهم بدماء الشعب السوري وبالفساد العام، يتوجب عليهم إدراك أن تفاوضهم بشأن نجاح عملية الانتقال السياسي هو ضمانة لعدم تعرّضهم للمحاسبة في المستقبل. كما أنّ على ضحايا الانتهاكات أن يدركوا أنّ مستقبل سورية يتعلق بمدى قدرتهم على تجاوز الماضي من أجل الشراكة في سورية المستقبل.

ويبدو أنّ ضمان الوحدة الوطنية مرهون بأن تتشكل هيئة العدالة الانتقالية من أعضاء وعضوات وفق توافقات على أساس الكفاءة والاستقامة والوطنية وليس المحاصصة، بحيث تتميز بالاستقلالية الإدارية والمالية عن السلطة التنفيذية، بل تتشكل من خلال مسار مجتمعي ترعاه السلطة. وبقدر ما يتم تأخير تشكيلها وانطلاق أعمالها تضعف ثقة ضحايا الانتهاكات برغبة قيادة المرحلة الانتقالية بإطلاق هذا المسار.

ومن المؤكد أنها ليست وصفة جاهزة لتطبيقها في كل البلدان الخارجة من أنظمة تسلطية، مما يفرض علينا صياغة مقاربة سورية مستفيدة من تنوّع التجارب الأخرى. ولكنّ التأخر في تحديد هذه المقاربة قد يؤدي إلى فقدان الثقة لدى ضحايا الانتهاكات، مما يدفعهم إلى الانتقام الذي يهدد السلم الأهلي. مما يجعل تأسيس الهيئة المستقلة للعدالة الانتقالية إحدى أولويات المرحلة الانتقالية، خاصة بعدما شهدنا توترات أهلية في بعض المحافظات.

إذ إنها قادرة على تحصين السوريين ضد الانتهاكات في المستقبل، كما حصل في أكثر من 40 دولة منذ سبعينيات القرن الماضي، منها: جنوب أفريقيا ورواندا وأوروبا الشرقية والمغرب وتونس، التي استطاعت أن تفتح صفحة جديدة في العيش المشترك لمكوناتها الدينية والقومية، وأن تتجاوز إكراهات الماضي، وتفتح أفقاً تقدمياً جديداً لشعوبها، خاصة عندما ترافقت محاسبة مجرمي الحرب مع عدالة تصالحية فرضتها المصالح العليا لهذه الدول، والمسألة مرتبطة بمسار المرحلة الانتقالية والإرادة السياسية لقيادتها.

ومن هنا، فإنّ العدالة الانتقالية في سوريا تهدف إلى إطلاق المصالحة المجتمعية الشاملة، لكي تتمتع الأجيال المقبلة ببيئة اجتماعية سليمة، غير مشوّهة بأحقادٍ أو مساعٍ للثأر. كما أنها المدخل اللازم لنجاح عملية الانتقال السياسي، والاعتراف بحقوق ضحايا النظام التسلطي، ولمنع تكرار ما حدث.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى