العرب بين قمَّتَين

غازي العريضي

عندما انعقدت في بيروت عام 2002، أطلقت القمّة العربية مبادرةً اعتبرتها “الأخيرة” لتحقيق “السلام” في المنطقة، لعلاقات طبيعية بين إسرائيل والدول العربية، عندما تنسحب الأولى من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وتقوم الدولة الفلسطينية المستقلة. إسرائيل، على جاري عادتها، ترفض كلّ المبادرات التي تدعو الى إقامة دولة فلسطينية والانسحاب من الأراضي المحتلة. تريد المزيد من التوسّع. وقد نجح رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في الانقلاب على المبادرة، وساعده بعض العرب، عندما أعلن: “العلاقات الطبيعية مع العرب تساعد على حلّ المشكلة مع الفلسطينيين”، فذهب هؤلاء العرب إلى إقامة علاقات أكثر من طبيعية أحياناً مع إسرائيل، المستمرّة في زيادة عدد المستوطنات في الضفة الغربية والقدس، وتهديد المقدسّات وشنّ الحروب.
انعقدت القمّة العربية غير العادية في القاهرة (4/3/2025) في ظروف بالغة الخطورة، بعد الحرب على غزّة وتدميرها بشكل همجي لا يتصوّره عقل، والإصرار على تهجير أهلها. التصريحات الإسرائيلية الرسمية من مؤيّدي نتنياهو كلّها، وتصريحات عدد كبير من معارضيه، تتلاقى حول المشروع ذاته، ومصير الضفة الغربية في الطريق ذاته. قرارات القمّة أقلّ من عادية، رغم تأكيد رفض التهجير واقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، لأن الإسرائيلي لا يزال في مكانه، وترامب يطلق يده، ويقدّم فكرة “خلاّقة” استثنائية، صعقت العالم كلّه: “تملّك غزّة وإقامة ريفييرا فيها”.
تغيّرت المنطقة كلّها بعد نتائج الحربين على غزّة ولبنان، وهو ما يجعل الإسرائيلي أكثر تمسّكاً واندفاعاً بمشروعه، وجاء ترامب ومعه إنجازاته؛ رفع العقوبات عن المستوطنين الذين ارتكبوا مجازر بحقّ الفلسطينيين؛ تحرير صفقات الأسلحة مع إسرائيل التي كانت مجمّدة، وتسليم قنابل مخصّصة للتحصينات تحت الأرض قد تستخدم ضدّ إيران وأنفاق غزّة، بعدما شعر الإسرائيلي والأميركي بالاستفزاز من مشاهد رافقت عمليات إطلاق “الرهائن”، واعتبرا أن ثمّة بنى تحتية لا تزال تختزن إمكانات كبيرة لحركة حماس؛ صدور تعليمات لموظّفي لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي تقضي بتسمية الضفة الغربية “يهودا والسامرة”، يعني تكريس ملكية الضفة لـ”الدولة اليهودية”، بالتلازم مع مشروع تملّك غزّة الغريب العجيب.

لا يتوهّمنَّ أحدٌ أن أميركا ستحميه (مهما قدّم من التزامات) وأن إسرائيل يمكن أن تكون شريكاً نزيهاً تحت أيّ عنوان من العناوين

استناداً إلى ذلك كلّه، أعلنت الخارجية الإسرائيلية أن “بيان القمّة العربية يعتمد على السلطة وأونروا، وكلاهما فاسد ويدعم الإرهاب”، ما يعني رفض قرار القمّة، والتمسّك بالثوابت الإسرائيلية، في ظلّ إصرار ترامب على مشروعه في غزّة، وتهديده المستمرّ للفلسطينيين رغم محاولات متأخّرة لترميم السلطة عبر إعادة بعض الرموز إلى قيادتها، والخشية من تسعير الخلاف الفلسطيني الفلسطيني، واستمرار الحرب الإسرائيلية على الجميع.
وفي مقابل القمّة العربية، أعلن موفد ترامب إلى المنطقة ستيف ويتكوف أن “قمّةً” ستعقد مع “مطوّرين عقاريين” في الشرق الأوسط بشأن غزّة، وأن دولاً “تتواصل معنا لعرض حلّ دائم لمشكلة القطاع”. يعني علينا أن ننتظر نتائج هذه القمّة المرتقبة التي قد تكون خريطة الطريق، ما دام العقل الأميركي يرى القضية قضيةً عقاريةً، والفعل الإسرائيلي يدمّر كلّ شيء.
تؤكّد المؤشّرات أن الحرب ستتجدّد، فهل تكون قمّة “المطوّرين العقاريين” الخطيرة متقدّمةً على القمّة العربية وقراراتها؟ مشروع تفتيت المنطقة وإثارة الحروب المذهبية والطائفية فيها مستمرّ، ولن يكون أحد بمنأى عن نتائجه، وأميركا في ما تفعله مع كندا وأوروبا، والإصرار على تملّك غرينلاند، وضمّ قناة بنما، وتحدّي الاتحاد الأوروبي “الذي أسّس من أجل استغلال الولايات المتحدة”، كما قال ترامب، والضغط على دول الاتحاد، ودول حلف شمال الأطلسي (ناتو) وابتزازها، هل ستوفّر العرب وتكرمهم؟ … بالتأكيد لا.
نحن على مفترق طرق خطير، لا يتوهّمنَّ أحدٌ أن أميركا ستحميه (مهما قدّم من التزامات) وأن إسرائيل يمكن أن تكون شريكاً نزيهاً تحت أيّ عنوان من العناوين، فهي تريد استثمار ما حقّقته بسرعة لتقوم “إسرائيل الكبرى”، المتفوّقة استراتيجياً في المنطقة، ورئيس حكومتها يكرّر: “سنغيّر وجه الشرق الأوسط”. على العرب الثبات ولو مرّة على مواقفهم ومبادراتهم، والاستثمار في إرادة الشعب الفلسطيني للبقاء في أرضه، لتخفيف الخسائر وكسب الوقت، وكي لا تحدّد “قمّة المطوّرين” مصيرنا، وتصبح دولنا وثرواتها عقارات وحسابات يتصرّف بها الآخرون.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى