حدث في قضية التآمر بتونس

صلاح الدين الجورشي

بعد أكثر من سنتين من الانتظار، انتصبت الثلاثاء (4 مارس/ آذار الجاري) المحكمة التي ستبتّ في قضية ما سمّي “التآمر على أمن الدولة”، والتي شملت 40 موقوفاً، وضمت أبرز وجوه المعارضة التونسية. كان يوماً مشهوداً لم تتهيأ له السلطة، بجناحيها السياسي والقضائي، بالشكل الذي يرقى إلى مستوى التهم الخطيرة التي وجّهت ضد الخصوم، والتي تصل عقوبتها إلى الإعدام. لقد اتخذ القرار بأن تكون المحاكمة عن بعد، لكن ردات الفعل في الداخل والخارج جعلت المحكمة تتراجع، وتمكّن عائلات الموقوفين والصحافيين وبعض الدبلوماسيين من حضور الجلسة. وفي القاعة التي ضاقت بالجميع، ضج الفضاء بالهتافات، وترديد شعاراتٍ طالبت بإحضار المعنيين بالقضية، ورفض استنطاقهم عن بعد. واستمرّ الجو متوتراً إلى أن رفعت الجلسة، ولم يقع الإفراج عن جميع الموقوفين ما عدا شخصاً وحيداً حصل له ما حدث لأبطال فيلم “إحنا بتوع الأتوبيس” (بطولة عادل إمام)، إذ جرى إيقافه بسبب سيارة تابعة له، توقفت مصادفةً أمام المنزل الذي كان يجتمع فيه بعض السياسيين المتهمين بالتآمر. وبناء عليه، وجد نفسه في السجن، رغم محاولاته إقناع الجهات الأمنية بأنه لا يعرف أيّاً منهم، وأنه مجرّد مواطن يبيع السيارات المستعملة. كما جرى تحديد يوم 11 الشهر المقبل (إبريل/ نيسان) لعقد جلسة ثانية بحضور جميع المتهمين، فكان ذلك أول انتصار رمزي يشعر به من شارك في تلك “الملحمة”.

رغم قرار القضاء منع تداول المعلومات الخاصة بملف القضية، مكّنت إحدى القنوات التلفزيونية أحد المقرّبين من السلطة بالتهجم على الموقوفين، ومحاكمتهم علنياً قبل أن يبتّ القضاء في شأنهم، معتمداً في ذلك على بعض وثائق القضية. وهو دفع بنقابة الصحافيين إلى التنديد بهذا “العمل غير المهني”، واعتبرت ما تم كان بمثابة “محاكمة إعلامية في اتجاه واحد والحال أن القضاء وحده مؤهّلٌ للحكم على المتهمين بإدانتهم أو إثبات براءتهم”. ودعت القناة إلى الاعتذار عن “السقطة المهنيّة الخطيرة، والكفّ عن تجيير القناة لخدمة أجندات سياسية صرفة لا علاقة لها بالمهنة الصحافية”. وسمح هذا التسريب لأوراق الملف، في المقابل، للعائلات بنشر مقاطع كشفت، بحسب ما أكده عديد المحامين، عن وجود إخلالات خطيرة تمس بجوهر القضية، وتؤكد أبعادها السياسية.

هذا أخطر ملفٍّ سياسيٍّ منذ حركة 25 جويلية (يوليو/ تموز 2021) في تونس، انعكست تداعياتُه على مختلف المستويات، خاصة الحريات العامة والفردية، فالأمر يتعلق بالتآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي. والحديث يجري عن وجود “خطّة لإطاحة الرئيس قيس سعيّد”. ولتنفيذ هذه “الخطة المفترضة” جرى الاتصال والاستعانة بأطراف أجنبية. وكما حصل في مطلع الستينيات، عند القبض على أنصار لصالح بن يوسف، وجّهت إليهم تهمة التخطيط للقيام بانقلاب وقتل الرئيس الحبيب بورقيبة، جرى اعتماد تلك الرواية لإقصاء المعارضين، ومركز السلطة، والحدّ من حرية الإعلام، وتضييق الخناق على المجتمع المدني. يتكرّر هذا المشهد مع اختلافات في الشكل والمضمون مع هذه القضية الجديدة، التي جمعت أطرافاً وشخصيات متباينة في مساراتها واهتماماتها، ولم يسبق لعديدين منهم أن عملوا ضمن مبادرات موحّدة أو كانت لهم طموحات مشتركة. ولافتٌ في هذا السياق عدم حشر زعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، في هذه القضية، بعد الحكم عليه في قضية “استالينغو” بـ 22 عاماً، وهي قضية أقلّ أهميةً بكثير من التآمر.

مرّة أخرى، يتأكّد أن هذه القضية ستشكل محطّة فاصلة في المشهد التونسي، وستزيد من حدّة انقسام التونسيين بين الذين يصدقون تفاصيل الرواية، ويعتبرون أن قيس سعيّد مستهدف فعلاً في سلطته وفي حياته من أطراف يحمّلونها جميع المفاسد والكوارث التي حلّت بالبلاد، وبين شق آخر من التونسيين يروْن ما يجري “مسرحية” غرضها فسخ المعارضة من المشهد السياسي، ومزيد من التحكّم في دواليب الدولة.

 

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى