ماذا نصنع مع ترامب؟

معن البياري

كل هذه الغزارة في إشهار السخط العربي، ومنه الفلسطيني، على ترامب وتخاريفِه بشأن قطاع غزّة وأهله، يوازيها شحٌّ فادحٌ في ترسيم ما يلزَم، وبإلحاحٍ، من كيفيّاتٍ عمليةٍ لمواجهة هذا الرجل وما يُدبِّر له. وذلك فيما الحاجة كثيرةٌ، وعاجلةٌ، إلى بناء تصوّراتٍ يتصدّى فيها النظام الرسمي العربي لما يبثّه رئيس الولايات المتحدة من عنديّاته عن فلسطين وقضيّتها، أرضاً وشعباً ومستقبلاً، سيّما أنه ليس صالحاً، بالضرورة، القول إنه قد جرى إسقاط “صفقة القرن” فسيسقُط كل حديثٍ لترامب عن “استملاك” الولايات المتحدة غزّة، وتهجير ناسها إلى مصر والأردن (وإنْ لم يقبلا فثمّة أرض الصومال وبونتلاند والمغرب!)، فلسنا أمام قياسِ شاهدٍ على غائب، ولا أمام تجريدٍ من علم المنطق، وإنما أمام مشروعٍ في الوُسع تنفيذُه، أو شيءٍ منه، إذا لم يُواجَه بخطّةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ وإغاثيةٍ متكاملةٍ وعاجلة، وليس بكلامٍ عاطفيٍّ مقدّرٍ عن صمود الشعب الفلسطيني الذي تعلّم من النكبة، ويتمسّك ببقائه على أرضه، فكلّ إنسانٍ يتطلّع إلى تحسين أحواله، وإلى تحقيق ما يتمنّاه أو ينشدُه، وصاحب هذه الكلمات مغتربٌ لأمورٍ مثل هذه. وبذلك لا يجوزُ، أخلاقياً، أن يُتَطاوَل على غزّيين يختارون الاغتراب من أجل العمل والتحصيل العلمي والاستشفاء والعيش الكريم ومعرفة العالم. وها كثيرون من الأربعمائة ألف الذين وصلوا إلى شمال القطاع يعودون إلى حيث كانوا نازحين، بعد أن عاينوا انعدام الحدّ الأدنى من متطلّبات الحياة بين أنقاض بيوتهم (لا مياه في 80% من الشمال)، سيّما في زمهرير البرد والمطر. على أن هذا السلوك الطبيعي لا يعني تسليماً من الغزّيين باستعمارٍ أميركي بين ظهرانيهم (جديد ترامب أن الولايات المتحدة ستتسلّم القطاع بعد أن تُنهي إسرائيل الحرب!)، ولا بنقلهم إلى الصومال إذا لم ترضَ بهم مصر والأردن.

ستعمد طواقم مختصّة في إدارة ترامب على صياغة خططٍ تيسّر خروج مئات آلافٍ من أهل غزّة، بالتدريج، وبدفعاتٍ لمسافرين طوعيين، في تسميةٍ محتملة، وفي البال أن بلداناً أوروبية (ألمانيا وغيرها) استقبلت أزيد من مليون سوري غادروا بلدهم في أثناء حرب الأسد على الثورة فيه، ما قد يُجيز احتمال شيءٍ مماثلٍ قد يجعل هذه الدول لا تُمانع في استقدام غزّيين للاستفادة منهم، وليس لأحدٍ هنا أن “يُزاود” بوطنيّاتٍ إنشائيةٍ عليهم، فهم سيبقون فلسطينيين، ولن يُغادروا وطنهم عمالةً لترامب وصهره كوشنير، صاحب المشروع الاستثماري العقاري الذي سيحوّل القطاع المنكوب إلى “ريفيرا”، بتعبيرٍ أجراه رئيس الولايات المتحدة على لسانه بعد أقل من ثلاثة أسابيع على عودته إلى البيت الأبيض.

ثمّة أهمية مؤكّدة للمواقف التي صدرت عن الملك عبد الله الثاني والرئيس عبد الفتاح السيسي، ورفضت طلب ترامب منهما قبول غزّيين في بلديْهما، ويحسُن تقدير بيانات السخط من دول عربية عديدة (والجامعة)، أكّدت رفضاً قاطعاً أي تهجير من أي لون لأي فلسطيني من أرضه. وهناك قيمةٌ مهمّةٌ لتشديد القيادة الفلسطينية الرسمية عدم سماح الشعب بنكبةٍ مضافة، لا بأس من تذكّر شجاعة الرئيس محمود عبّاس أمام صلافة ترامب في ولايته الأولى، في صفقته التي لا يُغفل أن “مقترحاتٍ” فيها أحدثتها إسرائيل في الواقع. ويجدُر تثمين بيانات الأمانة العامة للأمم المتحدة وعدّة دول (فرنسا وإسبانيا والصين و… إلخ) والتي استهجنت كلام ترامب الفالت. ولكن هذا كله قد لا ينفع إذا لم يوازِه مشروعٌ فلسطينيٌّ عربيٌّ إقليميٌّ (ودولي) كبير، يعجّل بإسعاف الغزّيين في القطاع المحاصر، ويؤمّن شبكة دعم وإنقاذ مستدامةٍ لهم، تُنجيهم من الوقوع فريسة الخديعة الأميركية، والتي جهر وزير الحرب الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، بخطّةٍ لتنزيلها في أرض غزّة، بتأمين خيارات الرحيل منها في منافذ برّية، وبترتيباتٍ بالجو والبحر.

ثمّة أوراقٌ سياسية (بينها معارضة أميركية داخلية قوية)، يتسلّح بها النظام العربي لوقف جريمةٍ يتهيأ ترامب لاقترافها بشأن غزّة وناسها، وثمّة قدرةٌ لدى عمّان والقاهرة (والرياض وغيرها) على وقف الرئيس الأصفر عند ظنون أوهامه عن قدرةٍ عظمى لديه لتنفيذ ما يأتي إلى خواطره. وثمّة عملٌ مضنٍ من أجل غزّة وعموم فلسطين، في الوُسع أن تنشط فيه الأمة. ثمّة كثيرٌ في المقدور صنعُه لمواجهة مشروعٍ بالغ الخطورة، ومنه أن يعرف أهل القرار والحاكمون العرب ممكنات القوة في الأمة، وأن يتّصفوا بشجاعة إرادةٍ سياسيةٍ مشتهاة، أقلّه لإنقاذ بلادهم من حماقاتٍ خطرة لرئيسٍ لا يحترم أحداً.

المصدر: العربي الجديد

زر الذهاب إلى الأعلى