الديمقراطية اليوم من أكثر تجلّيات العقل السياسي البشري أهمية، تمثلُ النقيض الموضوعي للاستبداد بأشكاله وألوانه كلّها. إنها اليوم ليست خياراً ترفياً، وإنما خيار استراتيجي وجودي للمجتمعات الحرّة، فكيف بمجتمعاتنا العربية التي أفقدها الاستبداد حضورها ومكانتها الوازنة بين الأمم، لما ترتّب على أنظمة الاستبداد من خراب للعمران والإنسان على حد سواء، وعلى مدى نصف قرن من إعلان قيام دولة الاستقلال الوطنية. وها نحن نقف اليوم بعد حصاد عشر سنوات مريرة من الحروب الأهلية، التي حالت دون التحوّل الديمقراطي الذي أتت به ثورات الربيع العربي الديمقراطي السلمية، التي مثّلت لحظة فارقة في بنية الاجتماع السياسي العربي المبني على ثنائية الاستبداد والاستعمار، إذ لم يغادر الاستعمار عالمنا العربي إلا بعد أن ضمن أنظمة استبدادية تحمي مصالحه، وتكبّل إرادة الإنسان العربي، وتبقيه أسيراً لاحتياجاته الحياتية التي لا تسمح له بالتفكير خارج هذه الدائرة الضيّقة، التي تجعل من التفكير في الحرّية والكرامة شيئاً ترفياً هم في غنى عنه.
وانطلاقاً اليوم من أهمية استئناف المسار الديمقراطي العربي، وأهمية وجود إطار ديمقراطي عربي، تداعت جماعة من المفكّرين والسياسيين والمثقّفين والناشطين العرب للقيام بمهمة الاستئناف الديمقراطي العربي، من خلال مؤتمر سراييفو، 19-20 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، وهدف إلى تعزيز المسار في العالم العربي مظلّة نضالية تعمل في صالح تبيئة العمل الديمقراطي، وتعزيز نضالات الديمقراطيين العرب، والدفع بها نحو أفق أوسع من الحضور والنقاش والتفاكر، في ظلّ التراجع الكبير في هامش الحقوق والحرّيات المدنية والديمقراطية في العالمين العربي والغربي. فالديمقراطية خيار استراتيجي في مواجهة الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي، وكلاهما وجهان لعملة واحدة، ولا يمكن مواجهة الطرفَين من دون سلاح الديمقراطية، التي تشكّل نقطة ارتكازٍ مهمة في نضالنا في سبيل الحرّية والكرامة والمساواة، إذ تمثّل الديمقراطية اليوم مدخلاً مهمّاً لتفكيك بنية الاستبداد، وإعادة بناء مجتمعات حرّة وفقاً لثقافتها، وخصوصياتها التي تقتضي تجريم أشكال العنف والاحتراب الأهلي والطائفي في هذه المجتمعات.
ولهذا كلّه، جاءت وثيقة العهد الديمقراطي العربي، لتعزيز هذه القيم والمبادئ كلّها، وتبحث في مكنون تراث وثقافة عالمنا العربي الذي لم يكن بدعاً من الأمر في مسار الديمقراطية وجذورها التأسيسية، وتركّز الوثيقة في جملة أفكار جوهرية في هذا المسار، تأتي في مقدّمتها أن الديمقراطية أداة فاعلة لتحقيق العدالة الاجتماعية أولاً، والخلاص من ثالوث الفقر والجهل والمرض، الذي يحاصر مجتمعاتنا، التي تختلف أولوياتها عن أولويات ديمقراطية أوروبا الليبرالية. إن الديمقراطية أداة فاعلة لتحقيق فضاء تضامني عربي واسع يفخر فيه العربي بتاريخه وتراثه وإسهاماته الحضارية في تاريخ البشرية، والفرز الحاصل اليوم في المنطقة لم يعد سوى بين ديمقراطيين واستبداديين، ولم يعد بين رجعيين وتقدّميين، ولا بين علمانيين وإسلاميين. الاستبداد هو أمّ الآفات كلّها، التي تعانيها منطقتنا من التبعية والفساد والانعزالية، بينما الديمقراطية هي منبع الحرّية والعدالة والكرامة والاستقلال.
الديمقراطية خيار استراتيجي في مواجهة الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي
ترفض وثيقة العهد الديمقراطي أيضاً الخلط بين الأنظمة الغربية، التي تدعم دولة الكيان الصهيوني، والأنظمة العربية الاستبدادية، والنظام الديمقراطي منظومة قيم وأفكار، كما تقدّر الوثيقة تقديراً عالياً القوى الديمقراطية المدنية في الغرب، التي وقفت بجانب غزّة في الوقت الذي صمتت فيه الشعوب العربية والإسلامية بفعل أنظمتها الاستبدادية، التي تقمع وتمنع كلَّ مظاهر التضامن مع غزّة، وفلسطين عموماً.
ما تمرّ به منطقتنا العربية من تحوّلات كبيرة، بدءاً بـ”طوفان الأقصى” مروراً بسقوط أقذر نظام أقلّوي استبدادي جثم على سورية الحبيبة، مروراً بالخرطوم، وغداً صنعاء، التي هي على موعد مع التحرير، فإننا ندعو القوى العربية الديمقراطية لتكامل الجهود في سبيل عمل ديمقراطي عربي موحّد، يستفيد من تحوّلات المنطقة، ويعمل عليها، لتخليق مسار ديمقراطي عربي يستعيد به المواطن العربي حرّيته وكرامته واستقلاله، ولا سبيل لذلك إلا من خلال مظلّة عمل عربي ديمقراطي موحّد وفاعل.
المصدر: العربي الجديد