بعد أكثر من عام من الدمار والخراب والقتل والتنكيل الذي لم يشهد له العالم مثيلاً في التاريخين، الحديث والقديم، وأعداد مرعبة ومهولة من الشهداء المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ والرجال، ومن الجرحى والمفقودين والمشردين، أبرم اتفاق لوقف إطلاق النار طال انتظاره وسعى إليه الجميع (ماعدا قادة الكيان الإسرائيلي)، لوضع حدٍّ لمعاناة الشعب الفلسطيني وتتويجاً لصموده الأسطوري الذي يفوق الخيال، ويستعصي على الإدراك والفهم، شعب علم العالم دروساً في التضحية والصبر والصمود والتشبث بالأرض، جعلته محوراً للعالم بأسره، وجعلت العالم يستنير به في دروب الظلم والقهر والطغيان.
سعى جميع الأطراف المتداخلة في الحرب على غزّة إلى نسْب هذا النجاح في المفاوضات وإحلال السلم الذي لا يزال هشّا، إليهم: المفاوضون الأميركيون والقطريون والمصريون، الرئيس الجديد والرئيس المنتهية ولايته للولايات المتحدة، والكيان الإسرائيلي المحتل الذي يعتبر نقسه قد نجح في القضاء على حركة حماس وعلى تحقيق أهدافه، ولذلك وافق على اتفاق إطلاق النار لاسترجاع ما تبقى من أسراه في قطاع غزّة، وغيرهم من المتهافتين على لعب دور ما في الصراع الدائر في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلا أن المتأمل في مجريات الأحداث يكاد يجزم أن من فرض وقف إطلاق النار والاحتكام إلى طاولة المفاوضات هم الشعب الفلسطيني في غزّة ومقاومتها، إذ في نهاية كل حرب، ولكل حرب نهاية ما، مهما طال أمدها، هناك منتصرٌ وخاسر، وعلى ضوء هذه الحصيلة، يحدّد مصير أطراف النزاع وموضوع النزاع ومآله، فهل انتصر الكيان الإسرائيلي في تحقيق أهدافه؟ وهل نجح في القضاء على “حماس”، وفي إخضاع سكان غزّة لإرادته، واسترجع جميع أسراه بالقوة العسكرية وبحرب الإبادة والتجويع والتشريد التي شنّها ضد الشعب الفلسطيني؟
تبيّن وقائع الميدان في نهاية الحرب أن إسرائيل لم تحقّق أياً من أهدافها المعلنة وغير المعلنة. لم تقض على حركة حماس لا عسكرياً ولا سياسياً أو شعبياً، ولم تتمكّن من إضعافها، فقد جدّدت الحركة قوتها وابتكرت أساليب جديدة في القتال، وبرهنت أيضا انها لم تفقد حاضنتها الشعبية وبنيتها السياسية، وأنها لا تزال سيدة الميدان، وقادرة على تكبيد خسائر جسيمة للجيش الإسرائيلي في الجند والعتاد، بعد مرور أكثر من سنة من انطلاق الحرب التي أنهكت اقتصاديا وعسكريا وسياسيا الكيان المحتل، بل شوّهت صورته أمام العالم وأردتها إلى الحضيض بشكل لم يسبق له مثيل منذ تاريخ نشأته، فقد انتهت الحرب وبعض قادته مطلوبون لدى العدالة الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية، وأصبح كياناً مارقاً ومنتهكا حقوق الانسان ومرتكبا أبشع الجرائم، وطاولته الإدانة الشعبية من مختلف أصقاع العالم وشعوبه، وغرق في غياهب الجهالة والنكران للقيم الإنسانية وللفطرة السليمة التي فطر الله عليها الإنسان.
وأدرك قادة الكيان المحتل في النهاية، ولو ضمنا، من دون قدرة على التصريح، أنه لا مستقبل لغزّة من دون “حماس”، وأن هذه الحركة لا تحارب بالسلاح، لأنها فكرة وعقيدة وإيمان بالحق في الحرية للشعب الفلسطيني، والأفكار العادلة لا تباد بالسلاح ولا تُدحض بالقوة، ولا تموت بل تولد من جديد وفي كل سعي الى قمعها ولادة جديدة، ولذلك ظلت “حماس” تقاتل رغم انسحاب أهم الجبهات الداعمة لها في لبنان ورغم ما تكبده الطرف الإيراني من هزائم استراتيجية مدوية في منطقة الشرق الأوسط ، وما ذلك الا حجة وبرهان على أن للمقاومة الفلسطينية أجنداتها وقضاياها الخاصة المستقلة عن كل الحسابات الإقليمية وأنها حركة تحرر وطني تنبع من رحم المعاناة ومن صلب الهوية الفلسطينية ومن عدالة القضية ، لذلك فهي باعتراف عدوها نفسه لاتزال تشكل الى اليوم تهديدا لأمن إسرائيل ووجودها.
للمقاومة الفلسطينية أجنداتها وقضاياها الخاصة المستقلة عن كل الحسابات الإقليمية
الهدف الثاني للحرب تجويع الشعب الفلسطيني وترهيبه وإبادته وحرمانه من كل مقومات الحياة بغية تهجيره من قطاع غزّة أو تطهيره عرقياً، لكن بعد الإعلان عن إطلاق النار وبعد استشهاد أكثر من 50 ألف فلسطيني وفقدان آلاف تحت الأنقاض وسقوط عشرت الآلاف جرحى والتجويع لمن بقي على الأرض حيا وحرمانهم من ظروف عيش إنسانية، لم يغادر سكان قطاع غزّة أرضهم، وتنقلوا من بقعة إلى أخرى فيها كرها وغصبا، وتعرّضوا للقتل والتنكيل في كل خطوة يخطونها، من دون وجود أي مكان آمن لهم، واستكثروا عليهم تطبيق أبسط القوانين الإنسانية والأخلاقية الدولية زمن الحرب لحفظ ما تبقى لهم من كرامة وحياة. ورغم ذلك، لم يخضعوا للمخططات التي سعت إلى إغوائهم أو إجبارهم على الخروج من غزّة، تمسّكوا بأرضهم وأدركوا أن لا ملاذ لهم في غيرها، فقد خبروا ويلات التهجير واللجوء من قبل، وعلموا أنها لن تزيد إلا في ضياع حقوقهم ونكران وجودهم شعباً يتوق إلى الحرية وتقرير المصير. لم يركع الشعب في غزّة ولم يهادن ولم يخن القضية، رغم كل الضغوط عليه، بل جعل العالم محتاراً في هؤلاء البشر المعزولين في رقعة صغيرة، يكابدون الأمرّين، ولا تسمع منهم إلا اللجوء لله والصبر على فقد الأعزاء والجلد أمام ويلات الحرب ودمارها وأهوالها، حتى حين ينفد صبرهم يخلقون من الإيمان بالله، وبقرب الفرج صبراً جديداً، ليسوا إرهابيين أو وحوشا بشرية، كما حاول قادة الكيان الإسرائيلي تصويرهم، فقد شاهدهم العالم بأسره يجوبون الشوارع بحثا عن الأمان، ويقطنون الخيام ويستنجدون لنصرتهم، لا يحملون سلاحاً أو ذخيرة، ولا يملكون إلا بعض ما بقي من لباس يقيهم الحر والبرد، إذ عجز المحتل عن كسر إرادتهم وتركيعهم وترهيبهم، وعجز عن تهجيرهم، وعجز عن بثّ اليأس في قلوبهم، فخسر أهم أهداف حربه.
الهدف الثالث للعدو تحرير أسراه الذين قتل كثيرين منهم بأيديه وبآلة الحرب التي وجهها لقتل أهل غزّة، وقد تعهّد بتحريرهم بقوة السلاح ورفض التفاوض في شأنهم ووعد بإرجاعهم إلى ذويهم عبر القضاء على حركة حماس وتدميرها كليا، فعجز عن ذلك، ولم تمكّنه الحرب التي خاضها أكثر من سنة من إرجاع أسير واحد بقوة السلاح، ولم يتسلم إلا الذين حرّرتهم المقاومة في صفقة تبادل الأسرى الأولى، وكان ضغط أهالي الأسرى الإسرائيليين يزداد يوماً بعد يوم لإدراكهم بمتاجرة حكومتهم بحياتهم وتعريضها للخطر، فقد مات الكثير منهم نتيجة الحرب وبنيران صديقة، حين غاب العقل وترنحت الحكمة وصارت الغلبة للعنجهية والغرور والكبر للقادة الإسرائيليين، وفي مقدّمتهم رئيس وزرائهم نتنياهو، وتحوّل ملف الأسرى ثانوياً، عوض ان يكون جوهرياً، رغم إدراكهم أن قوة السلاح لن تساهم في فضّ هذا الملف وحلحلته، بل ستفاقم من وطأته وتداعياته على أمن أسراهم وحياتهم، وأجبروا، في نهاية الأمر، على التسليم بأن لا مجال لتحقيق هذا الهدف، وأنهم فشلوا في إرجاع الأسرى، وفي تحقيق النصر المطلق الذي أعلن عنه نتنياهو مراراً. إنه فشل مطلق على جميع الأصعدة، إذ أبرمت بموجب اتفاق وقف إطلاق النار صفقة جديدة لتبادل الأسرى ستتمكّن من خلالها حركة حماس في مرحلة أولى من حمل الكيان المحتل على إطلاق سراح نحو ألفي أسير فلسطيني، بينهم 250 من المحكومين بالمؤبد، ونحو ألف من المعتقلين بعد السابع من أكتوبر (2023)، وبذلك تحقق المقاومة الفلسطينية نصراً تاريخيا معتبراً في حلحلة ملف الأسرى الفلسطينيين بتحرير عدد مهم منهم، بما لهذا التحرير من تداعيات على القضية الفلسطينية بأكملها.
تحقق المقاومة نصراً تاريخيا معتبراً في حلحلة ملف الأسرى الفلسطينيين بتحرير عدد مهم منهم، بما لهذا التحرير من تداعيات على القضية الفلسطينية
الهدف الرابع، البقاء في غزّة واحتلالها وإحكام السيطرة عليها عسكريا، وإقامة مستوطنات عليها، ولم لا تتحوّل الى منتجعات سياحية، أدركت إسرائيل أيضا عدم واقعيّته، وأنه سيكلفها أثمانا باهظة، أضحت غير قادرة على تحمّلها، ولم يعد الحديث عن اليوم التالي للحرب، وعن بدائل “حماس” مطروحا في الوقت الراهن على الأقل، بل بدا الجيش الإسرائيلي يخطّط للانسحاب من مناطق عديدة، في مقدمتها محور فيلادلفي الذي كان منذ زمن غير بعيد يعدّ خطا أحمر وممنوعا من التفريط فيه، ومسألة تهم الأمن القومي الإسرائيلي. انتهى الكرّ والفرّ الذي تفرضه المعارك، وحان وقت الانسحاب التدريجي من أرضٍ لفظتهم وأغرقتهم في جحيمها، وذاقوا فيها أروع الكمائن والمصائد والغارات، ستظلّ ترافق جنودهم وتلاحقهم في كوابيسهم لتذكّرهم بهذه الأرض المقدسة التي عجزوا عن تدنيسها، وسيحسبون ألف حساب قبل أن تطأها أقدامهم من جديد، فشلوا في غزوها وفشلوا في البقاء فيها وسيبقى مصيرُها بأيدي أهلها وشعبها من دون غيرهم من الدخلاء والغزاة، فهم من يحدّدون اليوم التالي فيها، ويقرّرون من سيحكمها ومن ستكون له اليد العليا فيها، فالحروب والدمار والآلة العسكرية، مهما كان بطشها وبأسها، عاجزة عن كسر إرادة الشعوب، لأنها عاجزة عن فتح آفاق سياسية وإنسانية لهم، وعن فرض سطوتها عليهم، بقيت الشعوب، واندحر الغزاة في كل أحقاب التاريخ، ومن لا يعتبر من التاريخ مصيره الزوال، ولا مستقبل له، وستظلّ الأوهام تقوده إلى أن يفتك به جنون العظمة.
يحق لنا إذا أن نعلن انتصار غزّة على كل العالم، وعلى كل الجبابرة والغزاة، لم يهزمها جيش تسانده أعتى القوى العظمى في العالم، وتمده بكل ما يشتهيه من مال وعتاد لإشباع نهمه في سفك الدماء وهوسه بالبطش والتنكيل وعزمه على إبادة شعب على مرأى ومسمع من الجميع. سيحفظ التاريخ جيدا أسماء من شاركوا في جريمة الإبادة والتدمير بالسلاح وبالتواطؤ والسكوت المطبق وبالدعم المبطن والناعم وبالتحريض على القتل والعدوان، فجرائمهم موثقة بالدليل والبرهان وبالصورة الحية والشهادات المتواترة، وسيأتي يومٌ تختلّ فيه التوازنات والتحالفات الآنية وتهتز فيه موازين القوى الراهنة، لتتم محاسبة الجناة وإخضاعهم للعدالة، ألم يُحاسب مجرمو الحرب العالمية الثانية ومجرمو يوغوسلافيا سابقاً ورواندا وغيرهم من مجرمي الحرب حاكمتهم محاكم دولية ودانت بعضهم، وقد بدأت ملاحقة الجنود الإسرائيليين في عدة دول، ولن تدوم الحصانة الأميركية التي يتمتع بها رئيس الوزراء الإسرائيلي وقادة الحرب في حكومته وجيشه.
هُزم الجميع وانتصرت غزّة انتصاراً مشهوداً بشعبها ومقاومتها، ستكون له حتما تداعياته على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وسيكون له استراتيجياً وقع كبير على المنطقة
هُزم نتنياهو وهُزمت حكومته اليمينية المتطرّفة، وهُزم كل حلفائه على قوتهم وعظمتهم، وهُزمت الأنظمة العربية الرسمية المتواطئة والمطبّعة، وهُزمت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية التي وجهت سلاحها في وجه قومها ومواطنيها عوض توجيهه إلى آلة الاستيطان المدمّرة في الضفة الغربية، وإلى مخطّطات الكيان المحتل الذي يشرع حاليا للتفرّغ للضفة الغربية وللاستفراد بها وتعويض خسارته في قطاع غزّة وتصدير أزمته الداخلية إليها لإرضاء النزعات الفاشية والمتطرّفة فيه، هُزمت منظومة حقوق الإنسان المهترئة، وهُزمت المنظمات الدولية الإنسانية التي عجزت عن القيام بالحد الأدنى من وظائفها المتمثلة في الغوث والنجدة الإنسانية الملحّة، وفقدت بذلك مصداقيتها، وهُزم القانون الدولي عموماً والإنساني خصوصاً، وأثبت عدم قدرته على التأقلم مع المستجد من حروبٍ ونزاعات، وهُزم المجتمع الدولي الذي ترك شعبا بأكمله بمفرده يواجه مصيرا مروّعا وبشعا من دون أن يقدّم حلولاً ناجعة وعاجلة لوضع حد لصراع مسلح، ولعدوان على شعب دام أكثر من سنة، من دون هوادة أو توقف أو حتى هدن إنسانية متقطّعة لتقديم العون الإنساني له، وكشف القناع عن ازدواجية الخطاب للديمقراطيات الغربية، وعن نظرتها الدونية إلى الشعوب العربية، وعن دفاعها عن مصالحها على حساب القيم والحقوق التي ما فتئت تعلن ريادتها في تبنّيها واحترامها، اهتزّت صورة دول العالم المتحضر الذي شارك في الإبادة، وبان زيف ادّعائه نصرة الحق والعدل.
هُزم الجميع وانتصرت غزّة انتصاراً مشهوداً بشعبها ومقاومتها، ستكون له حتما تداعياته على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وسيكون له استراتيجياً وقع كبير على المنطقة، بما أفرزه من أذرع مقاومة جديدة في اليمن والعراق، رغم الانكماش الإيراني، ورغم ضبابية المشهد السوري الجديد، ورغم تراجع حزب الله، فغزّة هي من أصبحت تؤثر في محيطها وتحدّد معالمه وموازين القوى فيه، وتستنهض الضمير الإنساني، ليصحو صحوة صادقة نصوحاً قبل فوات الأوان.
هلّل الفلسطينيون من أهالي غزّة ومن كل الأراضي المحتلة، وفرحوا بالإعلان عن وقف إطلاق النار، رغم ثقل الأوجاع والخسائر والفقدان، زغردت نساؤهم وهتف أطفالهم، سيجدون متّسعاً من السلام اليوم لنبش التراب عن أحبّائهم الذين دفنوا تحت الأنقاض وإكرام موتاهم والعودة إلى ديارهم المدمّرة ومواساة بعضهم واستنشاق هواءٍ نظيفٍ لا تدنّسه القنابل والمسيرات والمتفجرات، سيخرجون للعالم ليرووا الفظاعات التي عاشوها، سيكتبون تاريخاً جديداً خط بدمائهم ودماء أحبّتهم ليعلنوا أنهم ذاقوا عذابا لم يشهده بشر وفوق كل طاقة إنسانية للاحتمال، ومن حقّهم أن يرتاحوا وتطمئن قلوبهم ويلملموا جراحهم التي لا تزال نازفة، وأن يحتفلوا بالنصر.
المصدر: العربي الجديد