الإحتفال بميلاد السيد المسيح واجب ديني للمسلمين وفرحة الإحتفال ذاته تعبير عن مشاعر المحبة التي يكنها المسلمون لإخوتهم المسيحيين ، على خلفية دينية إيمانية ..فالمسيح عيسى إبن مريم أحد أبرز الانبياء والرسل أولي العزم الذين كانت رسالتهم محطات على درب الدعوة الإلهية لعبادة الله والإيمان به خالقا للكون..محطات في تمهيد طريق الإنسانية لمعرفة الله والتواصل معه والإستقواء به والإعتماد عليه ، في مواجهة مشقات الحياة وصلف المنكرين المتكبرين وتفاهة المنافقين وجبروت الماديين عبدة المال وشيطان المادة والغريزة والذات..
رسالة المسيح الإيمانية أول دعوة ربانية موجهة إلى الإنسانية جمعاء فكانت خروجا للرسالة الدينية من إطار الدعوة إلى قوم بذاتهم كما كانت حال أنبياء اليهود..أول إطلاق للرسالة الإلهية من قيود الزمان والمكان والعصبية البشرية إلى قوم محددين ..إطلاقها إلى رحاب الإنسانية جمعاء لتكون هداية لها وفداء لإيمانها وقيمها الأخلاقية والعصامية..ودفاعا عن حريتها من عبودية الذات والشهوات..أما السيدة مريم العذراء فكانت بذاتها حكاية مميزة فريدة من الطهارة والعفة ..طهارة القلب وعفة النفس وكبريائها..فكانت أطهر نساء العالمين وأقربهن إلى الله..هكذا إختار لها ربها رب العالمين لتكون أم الرسول النبي الفادي المخلص..
” يا مريم إن الله إصطفاك وطهرك وإصطفاك على نساء العالمين ” كما حدد قرآننا الكريم كلام الله العلي العظيم..
وبعد كل هذه الإعتبارات الدينية الإيمانية التي تشكل أحد أركان إيمان المسلم في دينه وعقيدته ؛ فإن فرحتنا للإحتفال بميلاد المسيح عليه السلام لها إعتباراتها الوطنية والتاريخية والجغرافية والقومية..فالمسيحيون العرب إخوتنا في الوطنية والعروبة الجامعة كهوية فضلا عن أخوة الإيمان..
ففي كل مراحل تاريخ بلادنا العربية ولبنان منها وفيها ؛ كان المسيحيون مواطنين مشاركين في كل شؤون الحياة وترسيم سماتها وتقرير مصائرها..شركاء في الإنتماء للوطن كما شركاء في هويته وهوية مجتمعاته وقيمها الأخلاقية والإنسانية..
لم يكن المسيحي مضطهدا في يوم من الأيام..ولم يكن مهملا او مهمشا في كل مراحل تاريخنا القديم والحديث..فكان المسيحيون العرب شركاء أصلاء وأصيلين في مسيرة بلادنا في كل مجالات الحياة وميادينها..ومن اللازم التذكير لمن لديه قابلية النسيان والإنكار ؛ بأن الوجود المسيحي في البلاد العربية سابق على الإسلام بحكم الأسبقية الزمنية..ومن المفيد أيضا التذكير بأن المسيحيين كانوا في عهدة وحماية إخوتهم المعرب المسلمين في كل تاريخهم..والشواهد المثبتة كثيرة جدا..فمن حماية الدولة العربية الاموية لمسيحيي المشرق العربي من إضطهاد وملاحقة البيزنطيين المسيحيين لهم ، وصولا إلى حماية الامير عبدالقادر الجزائري لهم في سورية أواخر القرن التاسع عشر ؛ مرورا بمساهماتهم العلمية والادبية والسياسية في كل مراحل الدولة العربية ؛ وصولا إلى أدوارهم الرائدة في حماية اللغة العربية وإندفاعة الدعوة القومية إلى وحدة العرب إنطلاقا من مصيرهم الواحد..كلها محطات تبين عمق الترابط كإخوة ومواطنين في وطن واحد وهوية واحدة ، بين المسيحيين والمسلمين..ولعل أعمق مراحل الوحدة الوطنية الشعبية بين المسلمين والمسيحيين كانت يوم أن إزدهر وتقدم المشروع العربي التوحيدي المتحرر من الوصايات الأجنبية ومن التبعية للخارج..كان ذلك جليا في خمسينات وستينات القرن العشرين يوم ان كانت البلاد يقودها زعماء أبطال أحرار..
إن بقاء الوجود المسيحي المزدهر في كل الحقب وتلك التي كانت الدولة العربية في عز قوتها ، دليل كاف على أنهم لم يتعرضوا لأي إضطهاد بل كانوا مواطنين كغيرهم..حتى في ظلال دولة الخلافة العثمانية لم يتعرض لهم أحد بل تمتعوا بأدوارهم فتقدموا وبرزوا وأنهضوا وأنجزوا..فلم يعيشوا يوما واحدا في صراع داخلي مع مواطنيهم من المسلمين وإلا لما بقي منهم أحد والمسلمون أكثرية حاكمة متنفذة..
وبالمقابل من اللازم التذكير بأن اية حساسيات طاىفية أو مشكلات دينية لم تنشأ في بلادنا إلا حينما إحتلها الغرب العلماني الإستعماري وإتخذ من التحريض الطائفي وسيلة للفتنة تمهيدا للإستقطاب والسيطرة والإستنزاف..يعرف هذا من يعرف تاريخ التدخل الأوروبي الإستعماري في بلادنا منذ اربعة أو خمسة قرون..إلى أن أتى المشروع الصهيوني الذي يشكل خطرا على الوجود المسيحي العربي قبل الوجود المسلم ؛ فراح يحرض على التقوقع المميت الذي لن يكون إلا وبالا على المسيحيين أولا..
المسيحيون إخوتنا وشركاؤنا في هويتنا وأوطاننا وقيمنا الحضارية والأخلاقية..مصيرنا واحد وفرحتهم فرحتنا وأعيادهم اعيادنا ..
كل سنة وانتم واوطاننا بخير وعافية..
الله محبة والإيمان عصمة والوطنية عاصم لنا جميعا من الزلل والإنحراف والتبعية..