عبر التاريخ، استخدم الثوار إزالة تماثيل الحكام والقادة السياسيين أو العسكريين فعلاً سياسياً قوياً للتحدي، يشير إلى رفض الأنظمة القديمة وإعادة تخيّل القيم السياسية والثقافية المجتمعية والهوياتية. تتجاوز هذه الإيماءات الدرامية الفعل ذاته، إذ تقدّم لمحة عن السياسة المتعلقة بالسلطة، والهوية، والتاريخ ومستقبل البلاد. وبالتالي، هي ليست مجرّد فعل مادي؛ بل وسيلة جماعية للتعبير عن رفض الأنظمة الحاكمة، إعادة كتابة التاريخ، أو السعي نحو هوية وطنية جديدة تتناسب مع المرحلة المقبلة.
بالأصل، عند تصميم التماثيل وتنفيذها، هي مجسّمات للتعبير عن شرعية النظام الحاكم وأيديولوجيته. يتم ترسيخ هذه الشرعية عبر مسار تحكم صُوَري بالمشهد العام للمدينة، وجعل التمثال مجسّماً حيّاً في أذهان المواطنين، يمارس رقابة سياسية وامنية عليهم، بحيث تترسّخ سطوة الحاكم وتترسّخ معه فكرة الحاكم المراقب Omniscient Ruler. يتضمّن هذا المسار الصوري توزيعاً مناطقيّاً للتماثيل يتنوع بين مداخل المدن الرئيسية، والساحات العامة، والشوارع الحيوية؛ وصولاً إلى الجامعات والهيئات الإدارية والمؤسسات الحكومية؛ بحيث يشاهده الناس كل حين ويستشعرون وجوده بينهم في رمزية الوجود والتخليد.
يمثل تدمير رموز الاستبداد استعادة للمساحات العامة وإعادة تعريف السرديات الوطنية
وفي مرحلة غليان المجتمع وثورته على الطغمة الحاكمة، أول وجهة هي تمثال الحاكم وصوره المنسوخة على كل حائط وعلى مدخل كل مبنى، لتُرسِل رسالة واضحة أن السلطة لم تعُد مقبولة، وأن الشعب يسعى إلى إعادة تشكيل هويته السياسية والمجتمعية بما يتناسب مع إرادته في التغيير والمبادئ التي وضعها لذلك. في السياقات الثورية؛ ليست التماثيل مجرّد رموز سياسية فحسب؛ بل إنها تشكل جزءاً من هوية السلطة الديكتاتورية التي تلجأ إلى تأليه الفرد القائد وترسّخه بوصفه من الذاكرة الجمعية للشعب والوطن، وربط الوطن باسمه كحالة لفظ “سوريا الأسد” التي صاحبت النظام السوري السابق، وكانت شعار مرحلة اكتظت بالديكتاتورية والحكم الشمولي. يظهر فعل إزالة تماثيل حافظ الأسد وابنه المخلوع بشّار الأسد رغبة في إعادة النظر في السرديات التاريخية السائدة ومواجهة الإقصاء الطائفي والمناطقي الذي مثله النظام السابق في سورية وحاشيته الجماعات. لم يكتف السوريون، منذ مارس/ آذار 2011 حتى ديسمبر/ كانون الأول 2024، بإزالة تماثيل رموز نظام الأسد الوالد والابن؛ بل صاحب هذه المشاهد ما نسميه باللهجة الدمشقية “التجريصة” المرتبطة بفضح مرتكبي أعمال “الخسّة والنذالة”، والتدليل عليهم عبر المنابر وفضحهم في الساحات على أعين الأشهاد. هذه التجريصة التي مُنيت بها تماثيل حافظ الأسد وابنه باستحقاق تام لم تأتِ من فراغ، وأدّت إلى نقاش اجتماعي أوسع بشأن العدالة الاجتماعية والانتقام السياسي مع توديع حقبة من الإقصاء وغلق الفضاءات العامة.
كان إسقاط تماثيل حافظ الأسد وبشّار الأسد تعبيراً عن رفض عقود من القمع والاستبداد. لم يكن هذا الفعل مجرّد تحدٍ للنظام، بل إعلان عن رغبة في تأسيس هوية وطنية جديدة قائمة على الحرية والعدالة؛ وهي لحظة فاصلة تتيح إعادة تقييم التاريخ والسياسات التي مثلتها تلك الرموز. ومع ذلك، يجب أن تُصاحب هذه الأفعال خطواتٌ أعمق تعزّز قيم المصالحة وإعادة البناء. إزالة التماثيل والتجريصة التي لحقت بها عبر جرّ رأس التمثال على الأرض خلف السيارات أو الدرّاجات النارية أداء سياسي مليء بالرمزية والنيات. غالبًا ما يكون هذا العمل لحظة من التنفيس الجماعي، حيث يجمع الغضب والأمل والرغبة في التغيير؛ ويستخدم أداة لتأكيد السلطة الجديدة وإبراز القطيعة مع الماضي، حتى إنها لا يمكن أن تدخل في باب محو التاريخ الأسود ومنع إعادة تأطيره بأي حجّة كانت.
تُعتبر إزالة التماثيل أداة لمحو رموز القمع وتأكيد رؤية سياسية جديدة تتصف بالديمومة
تُعتبر إزالة التماثيل أداة لمحو رموز القمع وتأكيد رؤية سياسية جديدة تتصف بالديمومة، والقوة، والشرعية. بالنسبة للثوار، يمثل تدمير هذه الرموز استعادة للمساحات العامة وإعادة تعريف السرديات الوطنية. مثال على ذلك كان تدمير تمثال صدّام حسين في العراق عام 2003، والذي اعتبر إعلانًا عن نهاية عصر الديكتاتورية وبداية حقبة جديدة في العراق. كان مشهداً أيقونيّاً للتغيير السياسي حينما أسقط العراقيون تمثال صدّام حسين في ساحة الفردوس في بغداد ليعلنوا انتهاء رمزيته وسطوته. في أوكرانيا، وخلال احتجاجات الميدان الأوروبي عام 2014، أزيل أكثر من 1300 تمثال للينين فيما عرف محليّاً وإعلامياً باسم “سقوط لينين”؛ سيما وأن هذه التماثيل مثلت حقبة القمع السوفييتي، وكانت إزالتها إعلانًا عن توجّه أوكرانيا نحو الهوية الأوروبية ونفضها غبار الارتباط بالاتحاد السوفييتي.
في الولايات المتحدة، تصاعدت حركة إزالة تماثيل الكونفدرالية خلال احتجاجات حركة “حياة السود مهمّة Black Lives Matter”. وكان تمثال روبرت إي لي في شارلوتسفيل من التي أزيلت، ما أثار جدلاً واسعاً بشأن الإرث التاريخي والعدالة الاجتماعية في البلاد. وفي جنوب أفريقيا، أثار وجود تمثال سيسيل رودس، وهو أحد مهندسي التوسّع الاستعماري البريطاني في أفريقيا الجنوبية، احتجاجات كبيرة في جامعة كيب تاون، وأطلق الطلاب حركة “رودس يجب أن يسقط”، مسلطين الضوء على إرث حقبة الاستعمار والعنصرية في العالم الذي يعجّ بهذه النداءات المناطقية والعنصرية.